هناك بُنى اجتماعيّة تُشكّل في تكوينها خطرًا على البُنى المماثلة الأخرى المشتركة معها في حيّز جغرافيّ واحد. وجاءت نتيجة التمازج العرقي والطائفي والمذهبي؛ ليبدأ صراع التاريخ مع الجغرافيا، صراعٌ من أجل التاريخ وعلى التاريخ نفسه بأثر رجعيٍّ، فلا شكّ لدينا مطلقًا بعبثيّته القاتلة لجسور العيش، والتعايش المشترك. حيث تأتي لعنة الجغرافيا كفصل جديد في إسدال الستارة على مأساويّة المشهد الدراميّ الخارج من وعلى سياق نسيج الديمغرافيّة السكانيّة، وراحت تمارس جنونها المُفتَعل بأجندة(بروبغاندا) تعزف سيمفونيّة قذرة، أبدعتها عقول مريضة، استحوذت على نفوس هزيلة؛ فاستعرضت عضلاتها، وهي تضغط باصبعها على الزّناد، لتقتل ذكريات وأيّام كانت مليئة حُبًّا وعيْشَا. بهذه المقدمة أستهلُّ إضاءتي على رواية المثلث المقلوب، التي عادت لتذكّرنا من جديد بعقد التسعينيّات من القرن الماضي، ومأساة البوسنة والهرسك وما حدث فيها من فظائع يندى لها جبين الإنسانية، فتمزقت البلاد إلى كونتونات متناحرة متدابرة، فالصّرب والكروات والمسلمون كانوا نسيجًا أساسيًّا في تشكيل الاتحاد اليوغسلافي الذي تفكك إثر انهيار الاتحاد السوفييتي القادم عبر بوابة (برادنبيرج)، عندما فتحت جُزئيْ مدينة برلين. وفي هذا الصّدد يقول الروائي العوّادين: “لوحةٌ ورديةٌ في بَاحَتها عديدٌ من المكوناتِ، تشكل مثلثاً أبعادُه الصَرْبُ, والكُرواتُ, والبوشناقُ, زاهرةً بحياتِها الآمنة تَنظُرُ إلى غدٍ جميلٍ، لكنَّ الغدَ القادمَ كان إعصاراً هائِلاً، مُدمِراً على شعبِ البوسنةِ”. وفي فصل (المذبحة) يقول العوّادين: “في الجَهةِ الشَّرقيةِ مِنْ جمهوريةِ البوسنةِ والهرسك. حدثَ بِجوانبها اقتتالٌ بين مُكّوِّناتِ سُكَانِها من الصِرْبِ والبوشناق”. ويُذكّرنا بأسماء (رادوفان كاراجيتش\رادكو ميلاديتش) زرعت الرّعب والخوف في النفوس، هذه القيادات الصربيّة التي رقصت على دمار وجثث الأبرياء والمقابر الجماعيّة الكثيرة. فيقول العوّادين: “مُنْذُ بَدْءِ الخَليقةِ، وهبوُط آدم إلى الأرضِ, وفي حينهِ حَدَثتْ أَولُ جريمةٍ بَيْنَ أبناءِ البَشَرِيَّةِ، هناكَ أَجْهزَ قابيلُ على هابيل, وهي أعظمُ جريمةٍ في الأرضِ بعد الشِّركِ بالله”. وما حدث من اغتصابات جماعية للبوسنيّات في (سراييفو وسربرنتشا موستار) كبرى المدن البوسنيّة. يقول العوّادين: “الأسيراتُ البوشناقياتُ يَتَلذذونَ على أجْسادِهِنَّ الحزينة، لكنْ كُرْهاً فُرِضَ عَليهنَّ من الأقوياءِ”. ويقول أيضًا: “بعدَ أنْ مارَسَ جنودُهم عملياتِ الاغتصابِ بحقِ المعتقلاتِ، فرضوا عليهِنَّ حِصاراً فترةً زمنيةً بعيداً عن لجانِ تَقَصِّي الحقائِق، كَيْ لا يُفْتَضَحُ أمرُهُم، وَكَيْ تنتهي فترةُ حَمْلِهِنَّ”. ذاكرة العوّادين ما زالت تخرج من مكنوناتها المليئة بالكثير، أثارت تساؤلات ربّما لو قيلت أو فكّرنا بها لكانت كُفرًا وتجديفًا، بقولي: ” ما هو الوطن؟، فهل هو الحجارة والتراب والسهول والجبار والبحار و الأنهار؟” أعتقد أنّ هذا هو الجانب الماديّ من الوطن، وهو ما نطلق عليه (الجغرافيا). وأجزم بأنّه لاقيمة لكلّ هذا إذا كان خُلُوًّا من المشاعر والأحاسيس، والآمال والطموحات المشتركة لمجموعات بشرية، فهي التي تُشكّل الجانب الوضيء المُشرق للجغرافيا في صنع مشاهد وبطولات وبنيان وأفكار وفنون وثقافات متعددة المناهل. وأدلّل على ما تقدّم بمقولة للروائي العوّادين: “وَدَّعونَا .. لكنَّنا لَمْ نُوَدِّعَهم،لأنَّهم غَادَرُونا أبرياءَ على مصاطِبِ التاريخِ المَوْبوءة”. فصيغة المثلث المقلوب جاءت مصوغة على عدّة نظريّات، وأتوقّف عند نظرية مثلث الجمال عند المرأة متمثّلًا بقاعدة المثلث العريضة الممتدّة ما بين كتفيْها وينتهي برأسه المقلوب عند خصرها النحيل، وهذا ما عبّرت عنه الرواية من وصف سرديّ دقيق لمايا حبيبة وليد. وما دامت بُنية مفردة البُنى، فتكون الأسرة اللبنة الأولى في بناء المجتمعات، وكان لأسرة(وليد، وسندس،) النصيب الأوفر في قاعدة المثلث بالوصف في رواية المثلث المقلوب، بينما أسرة (مايا) رغم أن الفترة الزمنية الأطول من حياة وليد بطل الرواية لم تحظ بتعريفنا بطبيعة حياتها، وهو من سكن معهم. وهذا مثلث آخر للبُنى الأسريّة المسالمة المتناقضة بتكوينها مع البُنى الخطرة التي رفعت راية الفكر الأسود. وتبقى رواية المثلث المقلوب علامة شاهدة على ذكرى مؤلمة للإنسانية جمعاء، وهي تشدّ خيوط ذاكرتنا إلى تلك الحقبة المظلمة في حياة شعب كان آمنًا، فلمّا تحرّكت الأحقاد التاريخيّة النتنة قلبت الحياة إلى جحيم.