في تأمّل بسيط لأحوال أبنائنا اليوم نلمس فراغاً عظيماً يحول بينهم وبين مواهبهم وتطلّعاتهم. فراغ قاتل يجنح بهم إلى الهروب من ذواتهم، منغمسين بالتّفاهات ومهدرين الوقت حدّ الاستعباد للّامبالاة إراديّاً. لا نلحظ إلّا نادراً اهتماماً بالمستقبل أو سعياً لأهداف محدّدة. حتّى الاجتهاد على المستوى التّعليميّ بات مجرّد سعي لتحصيل الدّرجات بهدف تخطّي المراحل التّعليميّة من جهة. ومن جهة أخرى، فقدان الحسّ الجماليّ الّذي يبدو معدوماً في نفوس شباب من المفترض أنّهم عصب المجتمع وإنسان المستقبل.
أبناؤنا الغارقون في محيط العالم الافتراضي، وسطوة الإعلام اللّامسؤول، وانعدام الأخلاقيّات إلى حدّ كبير، تتجاذبهم أمواج الفراغ حتّى باتوا يكرهون أنفسهم عن غير وعي. ففي هذه المرحلة العمريّة الّتي ينبغي لها أن تفجّر الطّاقة الإبداعيّة والتّمرّد على التقاليد البالية ومحاولة خلق ما هو جديد، نرى أبناءنا مسلوبي الطّاقة كأنّهم مخدّرون.
لا بدّ من أنّ أسباباً محدّدة أوصلت أبناءنا إلى هذه الحال، ولعلّ أهمّها التّربية والحضور الأبويّ. ثمّ الافتقاد لعنصر القدوة الّذي يشكّل السّبب الرّئيسيّ لخلق أهداف تفجّر الطّاقة الإبداعيّة، وتعزّز القدرة على الخلق والابتكار. وقد يتحمّل الأهل الجزء الأكبر من المسؤوليّة خاصّة أنّ العلاقة الأبويّة البنويّة باتت بشكل عام مقتصرة على تأمين المال وحسب. فاستحال الأهل مصدراُ تمويليّاً بدل أن يكونوا مصدراً عاطفيّاً يشبع إنسانيّة الإنسان حتّى لا يبحث عن العاطفة والحبّ في الأماكن الخاطئة.
في الماضي كانت أغلب العائلات تتتشابه في الأسلوب التّربويّ. أمّا اليوم فثمّة صعوبة تواجهها الآليّة التّربويّة في ظلّ مجتمعات استقال فيها الأهل من تربية أبنائهم. وفي ظلّ الانغماس في العمل بهدف تأمين متطلّبات الحياة الّتي باتت تفوق المنطق، وفي ظلّ حركة حياتيّة سريعة همّشت إلى حدّ بعيد العلاقة العاطفيّة الوجوديّة ضمن العائلة الواحدة. يفتقد أبناؤنا إلى مرجعٍ يوجّههم ويرشدهم، كما يفتقدون إلى تحمّل المسؤوليّة في أدنى واجباتهم. وهم المحمّلون بالأفكار الّتي يطرحها الإعلام والعالم الافتراضي، تشتّتوا وأصبحت عقولهم مبرمجة على التّلقّي دون السّعي منهم لإعمال العقل وتبيان الأمور والبحث عن الحقيقة.
يفتقد أبناؤنا إلى الشّغف بالحياة، إلى الدّهشة وروح المعرفة. يجترّون الأفكار غير محاولين تطويرها وبلورتها وإعادة النّظر فيها. فهم يقبلون كلّ ما يقدّم لهم من أفكار جديدة بغضّ النّظر عن صوابيّتها أو فشلها غير مكترثين باكتساب المعرفة. فإن تمرّدوا على الدّين فالأسباب غير مفهومة، لأنّ تمرّدهم لم ينتج عن تحليل وبحث وإنّما عن أفكار معلّبة جاهزة طُرحت أمامهم. وإن انغمسوا في السّياسة انساقوا وراء سطحيّتها بحجّة التّعبير عن الرّأي، دون تبيّن عمق الأهداف السّياسيّة، منقادين بأفكار الزّعماء الجدد الّذين يستغلّون سباتهم العقليّ ليحقّقوا مآربهم الشّخصيّة. وإن تمرّدوا على القيم والمبادئ انحرفوا بحجّة تحقيق الحرّيّة الشّخصيّة الّتي يفصل بينها وبين الانحراف خيط رفيع. وبات كلّ تمرّد أو رفض للأخلاق والمبادئ والقيم مجرّد تقليدٍ لما يرون أو يسمعون.
ثمّة هوّة بين أبنائنا وأنفسهم نتيجة الوحدة الّتي يعانون منها. الوحدة الكامنة في أعماقهم حتّى ولو وُجدوا بين أشخاص كثيرين. هذه الوحدة عزلتهم عن ذواتهم فما عادوا قادرين على التّعرّف على مواهبها وطاقاتها. لذلك نراهم يدورون في فراغ مقيت، يهدرون الوقت أمام هواتفهم الذّكيّة والبرامج التّافهة المساهمة بتخدير العقل واضّطراب النّفس. ما نلحظه بوضوح من خلال ممارسة أبنائنا لأمور تؤذيهم جسديّاً وذلك بدافع لفت الانتباه. فعندما يفتقد أبناؤنا للعاطفة والحبّ والدّفء سيلجؤون حتماً إلى ما يؤذيهم ليعبّروا عن نقص عاطفيّ هائل يحول بينهم وبين احترام جسدهم. ولعلّ ظاهرة انتحار الشباب والفتيات في سنّ مبكرة أبلغ تعبير عن هذا النّقص. فهم يعانون من الإهمال والوحدة وعدم الاهتمام، ما يخلق لديهم حالة من الاكتئاب العميق وإن كان الظّاهر يوحي بما هو عكس ذلك.
لقد باتت طاهرة افتراضيّة الأبناء اليوم عبئا تربويّا جديدا يضاف إلى الأعباء التّقليديّة ممّا يجعلها ظاهرة معقّدة وتحتاج إلى بحث معمّق أكثر وبوجوه متعدّدة؛ ليستفيد الشّباب من نعمة التّكنولوجيا، وحتّى لا تنقلب الأمور وتصبح النّتائج لا عكسيّة فقط، وإنّما كارثيّة تمسّ المستوى الشّخصيّ والمستوى الاجتماعيّ وتدمّر البنية الاجتماعيّة بدلا من أن تكون قوّة بناء ومحرّك تنمية فعّال.