عبد المحسن يوسف ….عاشق الحرية و الحياة.
الشعر مرآة للحياة بل يخلقها أحيانًا, والشاعر عبد المحسن يوسف في ديوانه الجديد( ما يشبه آمالاً زهيدة ) ينتصر للحياة و حبها, فيبدو لنا عاشقًا للحرية, كارهًا للأغلال والقيود بشتَّى أشكالها, هذا العشق للحياة, و تلك الكراهية للقيود ينبعان من ذات شعرية طامحة للمثالية و الجمال , فتتحوّل المرأة إلى ملاذ, و تصبح الرغبة في تحقق الذات و حضورها هدفًا وجوديّاً, وتصير النوستالجيا لفترة الطفولة مأوى ورمزًا للجمال, و تتحول صورة الطفولة إلى رمز من رموز جمال تلك الحياة في ماضيها و حاضرها بل و تشكيل مستقبلها, ولنقرأ معًا في ص 46 تلك الصرخة المدوِّية في وجه الأغلال و القيود, صرخة تستمد لغتها من المعجم الرومانسي المتفاعل مع عناصر الطبيعة من شجر و مركب و طيور و قلوب و تأمُّل, حيث يقول:
( أسرفتُ في التأمُّلِ
أسرفتُ في التحليقِ
فيما كان المركب يعدو بنا متمهلاً
بين ضفتين من شجرٍ عالٍ و أعراسِ ظلال.
فوق رؤوسنا ثمَّة طيور ترفرف مُطمئنةً, و تصدح..
هتفتُ: تلك ليسن طيورًا,
تلك ليست طيورًا..
إنَّها قلوبنا التي فرَّتْ من أقفاصها العمياء
تستعيد حريتها مُحلِّقةً,
وتُمزِّق الأغلال..)
هذا الحب للحياة, وذلك العشق للحرية يدفعان الذات الشاعرة لرفض كل صور متاعب الحياة اليومية, وحصار تلك المتاعب له, تلك المتاعب التي رصد بعضها في قصيدة حمل عنوانها مفارقة بها معاني السخرية من متاعب هذا الواقع المرير” كبرياء الرأس ومذلّة الحذاء”, فيقول في ص 27:
(و يا أيُّها السائر في المعمعة
يا مَن تقود قطيع الأحلام
كل صباح
إلى أين تمضي؟
وأنتَ المُحاصر بالدخان, والفيروسات,
و صدأ الوظيفة,
و العفن المقيم في كل قلبٍ و شارع)
لهذا ترفض الذات الشاعرة الإحساس بالحزن لأنَّه يتعارض مع الإحساس بالحياة والحرية و ما فيهما من جمال فيقول في ص 84 في قصيدة” في حضرة السيِّد الحُزن”:
( لم يعُدْ يطرق أبوابنا كما كان يفعل قَبلاً,
هو الآنَ يعصف بالنوافذِ, ويقتلع الأبواب
باب البيت/ باب القلب/ باب النص- و ما شئت من أبواب – كلها أدركتها الهشاشة ولم تعد تقوى على مقارعة هذا الزائر الكريه
حزننا الذي تخلّى عن الرقَّة بات يرفس بحذائه الغليظ الذي يشبه بساطير الغزاةِ أحلامنا الغافية)
وفي عشق الحياة والحرية والجمال تأتي رغبة الذات الشاعرة في الوجود و التحقق, لأنَّ مناخ الحرية لا بُدَّ أن يسمح لها أن تعيش كما تريد, حرية وتحقق حتى في التعامل مع الحرف و القصيدة, بل مع كل تفاصيل الحياة, فيقول في قصيدة”ما يشبه آمالاً زهيدة” في ص 59:
(أنْ أغفو في ظلال أشجارٍ وارفةٍ في كتاب
أنْ أراقبَ العصافيرَ وهي تُحلِّقُ سعيدةً في سماء قصيدةٍ لم تُكتب
أنْ أسترخي على عُشْبٍ ناعمٍ في حديقةِ المُخيِّلة
أنْ أتشاغلَ بقمرٍ صغيرٍ يستريحُ على صدر امرأةٍ مائلةٍ في الأغاني
أنْ أبصرَ مراكبَ فرحٍ مُبحرةً في زرقةِ هذا الحِبرِ الذي أكتب به الآنَ
أنْ أسافرَ إلى مدنٍ غير مرئيةٍ دون أنْ أرتحل
أنْ أذهبَ إلى الوظيفة المُرَّة بروحٍ عذبةٍ كالمطر
أنْ أكونَ وسيمًا في ليل الخسائر
ألَّا أحصي مكائد الصديق
أنْ أتباهى بالخيبات المؤجَّلة
أنْ ألهو كطفلً عابثٍ دون أن أكترث بما سيقول عنِّي السادة الناضجون
أنْ أكون أنا …أنا في كل الأحوال..
….
إنَّ ما أتمناه حقَّاً
ألَّا تؤول تلك الرغبات أعلاه إلى خانة ما يشبه آمالاً زهيدة)
ومع عشق الحياة وحُب الحرية تبحث الذات الشاعرة لنفسها عن ملاذ يحميها نفسيا من المتاعب التي تواجهها, فتطل علينا المرأة في الديوان باعتبارها المُجرَّد أحد أهم تلك الملاذات, حيث يتسع صدره حين يذكرها وقت أن تضيق عليه جميع الرحابات, فيقول مثلاً في قصيدة” عطرها يصعد السلالم “ص 51:
(كل رحابةٍ تضيق
وحده قلبكَ يتسعُ
حين تتذكَّر عطرها
هادئًا, هادئًا, يصعد السلالم).
ومن الملاذات العظمى في الديوان صورة الأم بمكانتها وتضحياتها وإفناء عمرها من أجل إسعاد أبنائها, فيقول في قصيدة” حين تدعك مرايا الوقت” ص 9:
(تدعك أمي زجاج فوانيسها البليغة
وكأنَّها تبدِّد غبار عمرها الناعم…
عمرها الذي أنفقتْه ساهرةً على
كنوزِ فقرنا العظيم
عمرها الذي عيَّنَتْه
- منذ نضارتها الأولَى –
حارسًا على أرواحنا الصغيرة
أرواحنا الحافية
كي لا يخدهشها هواءٌ عابرٌ
أو يجرحها نسيمٌ مريض).
ونلمس النوستالجيا لفترة الطفولة بكل ما تحمله من براءة وسعادة في أكثر من قصيدة, هذا الحنين لتلك الفترة يُمثِّل أيضًا ملاذًا للذات الشاعرة في مواجهة متاعب و سلبيات الواقع, و لعل من أبرز القصائد تعبيرًا عن ذلك الملمح قصيدة” حافيًا كفكرةٍ جرداء ” ص 92, حيث يقول:
( عندما كنتُ طفلاً,
أذهبُ إلى البحرِ
حافيًا كفكرةٍ جرداء
وضامرًا كحرفِ الألِف
أتأمَّل بإمعانٍ تلك السجادةَ
الزرقاء العريضة الواسعة
وإذَّاك يزداد قلبي اتساعًا
وتستحيل المُخيِّلةُ بريَّةً تمرحُ فيها الظباء
ليلًا كنتُ أبصرُ القمرَ
يهبط هادئًا من عليائه المتكبرة
و يربتُ على كتفي برقَّة وردةٍ
ويحشو “جيبَ ” قميصي الصيفيّ بالحلوى والفرح).
وعلى المستوى الفنيّ اعتمد الشاعر على القصيدة القصيرة ذات التكثيف الدلالي, مع الصورة الكلية و كأنَّه يقوم برسم لوحة تشكيلية مكتملة الخطوط والعناصر, موظِّفًا الصورة الشعرية الجديدة المبتكرة, نلمح هذا في معظم قصائد الديوان, ففي قصيدة ” ذلك العسل البِكر ” ص 31 يقول:
( “1”
سأدرِّب هذا الشارع الطويلَ
العريضَ العتيقَ على التأمُّلِ
والرصيفَ على الهرولة.
“2”
سأغوي البحرَ بالسُكَّرِ
والأشجارَ بكسلِ الريحِ
والعصافيرِ بفندقٍ من غصونْ)
كما نرى تلك الصورة الكلية الجديدة في قصيدة” على المقعد المجاور لقلبي ” ص 107 حين يقول:
(قلبي معك
التفتي قليلًا
إنَّه يجلسُ على المقعدِ المجاورِ
يحدِّق في فضاءِ وجهكِ الجميلِ
ويبتسم).
توظيف الطابع القصصي بما يخدم اللغة القائمة على السرد وكأنَّنا أمام قصة شعرية قصيرة, بما يؤكد أنَّنا أمام شاعر مثقف مُلِم بالأنواع الأدبية الأخرى ويوظّف لغتها داخل القصيدة, نجد هذا الملمح في قصيدة”نزهة صيفية” حيث يقول في ص 44:
(صعدنا إلى مركبٍ صُحبة نسوةٍ جميلاتٍ, ورجالٍ أنيقين
و كان صوت سيدة شقراء دليلًا لنا في نزهة الماء
كأنَّ الصوتَ شمسٌ تتبرَّجُ
تذكَّرتُ “رامبو” – هنا –
” لماذا تذكَّرتُ رامبو هنا؟”
هل لأننا في مركبٍ
أم لأنَّ رأسي يميل؟)
كما يأتي في سياق توظيف الطابع القصصي داخل القصيدة استغلال فضاء الصفحة والفراغات الطباعية, فنجد قصائدَ مُقسَّمة إلى مقاطع قصيرة, و قصائدَ تتابع فيها الأسطر الشعرية أسفل بعضها البعض, وأخرى مكتوبة في صورة فقرات كشكل كتابة القصة القصيرة والرواية, ليؤكد الشاعر من خلال هذا الشكل الطباعي الأخير أنَّ فنون النثر الأخرى كالقصة القصيرة و الرواية ليست غائبة عن بنيته الثقافية والمعرفية بل والفنية داخل الديوان, نلمح هذا في قصائد مثل ” عن الوردة و الغصن, القطف والقاطف” ص 24-25, وقصيدة” رشقتك” ص 36, وقصيدة” في حضرة السيد الحزن” ص 84, وقصيدة ” في مديح الموت ” ص 87…وهكذا.
سمة فنية أخرى ارتبطت بحضور المرأة في الديوان وهي توظيف الجسد, ففي قصيدة” قميص يفيض” نجد توظيف الشاعر للجسد لكن دون تقريرية أو ابتذال فيقول في ص37:
(مليءٌ قميصها
حدَّ أنَّه يوشك أن يتهتَّك
وعامرٌ, عامرٌ بشمَّامٍ يفيضُ
في انحنائها يندلق
و في استلقائها ينادي
هذه المثمرة بإسراف
من أيِّ بستانِ أنوثةٍ تمَّ اقتطافها).
سِمة أسلوبية أخرى هي توظيف التكرار لتأكيد المعنى, مع السؤال الذي يعكس قلق الذات و الحزن لفراق الأم التي غاب بفراقها كل شيء جميل, فيقول في ص 14:
(أمَّاه
أمَّاه
أمَّاه
أيتها المفتونةُ بحراسةِ
لآلئنا النائمة.
ماذا عن نفائسك القصيَّةِ؟
لِمَ تركْتِها تذبل هكذا؟
و لِمَ أهْملتِ إلى هذا الحدِّ
بساتينَ الروحِ؟
و أعنابَ الجسد؟ ).
بُعد آخر أعتبره من أهم السمات الفنية في الديوان هو النسبية لدى الشاعر, فلا يقينية أو ادِّعاء بامتلاك الحقيقة الكاملة, ذلك البُعد النسبي يجعلني أمام الإنسان الحقيقي بكل ما تحمله كلمة إنسان من معاني, فاستخدام كلمة ( يشبه) في العنوان و داخل المتن يؤكد ذلك البُعد النسبي, أيضًا استخدام لفظة (كأنَّها) في أولى قصائد الديوان يعطي حقلا دلاليًا واسعًا لقيمة النسبية, و لنقرأ معًا قوله في ص 12في سياق حديثه عن تنظيف الأم لزجاج فوانيسها:
(تدعكُ بهدوءٍ,
بهدوءٍ تدعكُ
وكأنَّها تتحرّر من ثُقلٍ ما
ثُقلٍ يضني بساتين الروح
و غابة الجسد…
تدعكُ
تدعكُ
وكأنَّها تتخفَّفُ مِمَّا
يستهلك مباهج السريرة
تدعكُ…
وتحدِّقُ صرامةٍ في البلّور المُشع).
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ الشاعر عبد المحسن يوسف في ديوانه ( ما يشبه آمالاً زهيدة) يعرض رؤية تقوم على محبة الحرية والحياة في قصيدة نثرية تقوم على الصورة الكلية مع الخيال الجزئي المعتمد على الصورة الجديدة المبتكرة, والاستفادة من فنون النثر الأخرى كالقصة القصيرة, مع توظيف الجسد بدون ابتذال يخل بالقيم الأخلاقية, رافعًا من قيمة الأم و مرحلة الطفولة والنسبية في التعامل مع الكون والحياة.