111/ بقلم الأديبة الأردنية عنان محروس

هما سبيلان للهرب : النافذة .. وهي في الطابق الأول فلن يُصاب إلا بقليل من أذى إن قفز .. أو الباب .. ذلك اللعين الذي يُطرقْ كل خمس دقائق من ممرض أو دكتور أو عامل نظافة .. فلا يستطيع النوم أو الراحة .. تخنقهُ رائحة المطهرات والأدوية والوجوه التي تتكرر كل يوم منذ شهرين بانتظار قرار الأطباء : عملية .. خطة علاج .. أم رصاصة رحمة .. من يدري !؟ فالتشاؤم واليأس يرافقه منذ نعومة أظفاره .. سمع صوتَ طفل خائف يصرخ في ممر المشفى .. فازداد حنقاً وغضباً . اجعلوه يصمتْ .. أغلقوا فمه .. بدأت الشمس تغيب ، فأشرق وجهه كالعادة وبدأ الألم يعتصر جسده من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه .. لم تعد المسكنات تجدي نفعاً مع شيخوخته . طبيب شاب دخل غرفته .. وهو لا شك في عمر ابنه لا يتجاوز الثلاثين في جولة مسائية معتادة ، نظرَ العجوز لوجهه متفحصاً وتذكر نفسه ، وكأنه يرى تقاسيم وجهه في المرآة : مقطب الحاجبين ، جامد التعابير ، لئيم النظرات صوتُ والدته الناصح ” رحمها الله ” باغته فجأة وهو يحملق ملياً بالطبيب : ” لا تُقَبّحْ وجهك الجميل بهذا العبوس يا بني ، تباً لتلك الجينة الموروثة من والدك النكدي ، امحِ علامة 111 من بين حاجبيك .. وامنح الراحة لخطوط وجهك لتُسعد قسمات وجهك بابتسامة تقرب الناس منك ” لماذا يعتب على لؤم هذا الطبيب ؟؟! فهو مثله وأكثر .. كم هو نادم لتجاهله نصيحة أمه الحنون البشوش . لكن ندمه لن يفيد .. لا يُعيد الموتى ولن يُقرب البشر الذين نفروا منه وابتعدوا عن مجالسه ومُجالسته ” عملية خطرة تلك التي تحتاجها ، لا بد من توقيع أقارب من الدرجة الأولى خلال يومين .. وإلا ستموت حتماً ” صوت جاف فاجأه من طبيبه عاقد الحاجبين .. رمى جملته القاتلة في وجهه ثم اتجه مسرعاً لغرفة غيره من المرضى ، لينذر كالبوم ، بشؤمٍ آخر .. عاد .. وحيداً .. حتى الممر اختفت الأصواتُ منهُ .. فكر بعمق : ” من أين لي من يوقع اتفاقية المشفى مع ملاك قابض الأرواح ليتركني وشأني .. لستُ مستعداً للموت بعد ” ؟! من سيوقع إذاً ..؟! وأطرق برأسه حزيناً … … والدته توفت .. زوجته انفصلت عنه وآخر ما علِقَ بذاكرته منها صوتها وهي تدمدم غاضبة : ” لا يستطيع النكد منك فكاكاً .. ستموت وهو يحضنك ” رزقهُ الله بتوأم ذكور هما كل ما لديه ولكنهما هاجرا بعيداً مع زوجتيهما منذ سنين وقد يتذكرونه بمسج أو مكالمة من حينٍ إلى آخر من باب رفع العتب . الأصدقاء والأقارب نفروا منه .. ومن كان منهم مجاملاً لغاية أو مصلحة ما .. ابتعد مسرعاً منذ أن أقالوه من منصبه المهم .. المرافق الشخصي الذي كان معه كظله غيَّر رقم هاتفهِ ومسكنه فور انتهاء مدة خدمتهِ معه .. يبدو أنه وإن عاش أكثر سيكون مجرد غريب على كوكب الأرض ولا بد انه سيوقع اتفاقية ما .. نعم .. ولكن لتسحبهُ وتعاسته إلى العالم الآخر ، سيموت وحيداً .. مرَّ شريط عمرهِ لحظةً لا قيمة لها ، فقيمة اللحظات بقيمة ما تختزنه الذاكرة من فرح ، غصة عميقة جعلت حلقه جافاً مليئاً بالأشواك ، شعر بدوار أثقل رأسه ، فأرتطم بحافة السرير بقوة .. استيقظ .. وهو يكاد يقع من على كرسي الزوار بالمشفى .. وصوت والدته مستبشراً .. مبروك .. ألف مبروك .. رزقك الله بتوأم ذكور .. انفرجت أساريره .. ابتسم بكل ما أوتي من قوةٍ على الابتسام .. أدار وجهه نحوهم .. صَعقتْ المفاجأة والدته والمرافق الشخصي ” إنه يبتسم ” !

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!