(قدمت الشهادة في مركز الحسين الثقافي /رأس العين بحفل توقيع المجموعة القصصية أغدا ألقاك للقاصة عنان محروس يوم السبت الموافق 12/5/2018م)
الصمت بارد كالثلج، يحفظ قلوبنا بعيدا عن الدفء حتى ينزف القلم بما أخفته جبال الجليد في أحد القطبين، قطب الصمت وقطب البوح، وحين أشكل على أحاسيسي، تبلدت مني المشاعر وكأن أحلام مستغانمي قد أدخلتني في فوضى الحواس وأخرجت الذاكرة من جسدي لأعيش بين الصمت والبوح عابر سرير، فهل للكلمات أن تشتعل على فوهة بركان قطبي صمت طويلا وأبى أن يثور، فالصمت سكون الحائر وهو في حالة تأين يفقد شحنات سالبة على أمل شحنات موجبة.
فالصمت حالة من الفوضى الداخلية حين ترسم تعابيرا على الوجوه لا تقرؤها إلا عينان باردتان، وشفاه مرتجفة تبعثر الحروف علها تصنع فوضاها الخلاقة، تكتب بأصابع مرتعشة، ينكمش الجسد كلما تملكه الصمت والجليد، لكن روحها الوثابة تأبى أن يكون الصمت دثارها، كلما حلقت عاليا في ملكوت القصة التي تفشي سر الجليد، وتبوح عنان محروس بكوامن النفس بلغة أخذت من الشمس سطوعها.
الصمت لحظة تأمل في انتظار الوعي، لحظة اخرى في انتظار البوح بعد رحلة من التأمل في الكون والوجود، الصمت سكون قد يدوم طويلا، ولكن الاعصار الذي يخفق في الصدر لابد له من زلزلة تخرج حمم البراكين، لتعيد تشكيل سطح الارض على هيئة جديدة هكذا تشكلت الارض، و النجوم، والشموس، والسماوات، فالصمت لحظة للغيم قبل البكاء و الصمت لحظة الجفاف في انتظار المطر، والصمت لحظة انفلاق الحب والفجر كي يولد يوم جديد، من قال ان الصمت حالة من القصور ! الصمت لغة غير منطوقة في قصيدة شاعر لم يكتبها بعد ، والصمت الوان لم يدركها الفنان قبل ان تتحرك الالوان بفرشاة الفنان على سطح اللوحة، الصمت و التأمل منهج الإلهام فهي الثانية التي ننتظر فيها الوحي حتى ينطق ما اكتنز في صدورنا و نبوح كل الصمت دفعة واحدة على شكل طائر يحلق في فنون الادب.
كل شيء صامت حتى نكشف عنه، فالشعر الجميل صامت حتى نكشف غطاء الرأس عنه، حينها يتكلم الصمت إن بدا ما بدا تحت الغطاء، فالكون مغطى بقوانين أبدعها الله في خلقه لم نفهم هذا حتى كشف نيوتن غطاء الحاذبية، وكشف سقراط غطاء الفلسفة، حينها تكلم الكون بعد صمت طويل، فلا بد من الكشف والتأجيل حتى نرى هذا الجمال المدهش في تراكيب اللغة، وصوره الفنية، ودلالات الكلمة في سياقها.
ماذا لو بقيت المفردة حبيسة المعجم، لم نتعرف إلى جذرها؟ سيبقى المعجم صامتا تحت ركام الغبار حتى يكشف الكاتب تلك الدلالات في سياقات لغوية، فيتكلم الصمت في التفسير والتأويل وربما يتكلم الصمت في شرح الآيات، عندها يتكلم الصمت طويلا حتى يفرغ من فكرة إلى أخرى عاشت طويلا في تلافيف الصمت.
فالصمت مسافة بين دهشتين، ومسافة بين عتبتين، والصمت مسافة بين المفهوم والمصطلح، فكلما تقاربت المسافة بينهما تجلى المفهوم في المصطلح، فالصمت قدرة العين على رؤية الأشعة ما فوق البنفسجية وما تحت الحمراء، والصمت قدرة الأذن على سماع ما يقاس بالديسبل عند المخلوقات ولا يصل لها الإنسان العادي، فالصمت طاقة كامنة على الأديب والمفكر أن يفجر الصمت في معادلة رياضية، وقدرة فيزيائية ونفاذ كيميائي في رحم النص الأدبي راعشا بنصه مثل قصيدة كادت أن تنوس قبل أن تصحو على قبلة من زيت السراج.
“الصمت كلمة تحكيها الصور” هذا ما حدثتني به الفنانة رنا حتاملة، والصمت كلمة تحكيها المرايا يا عنان، فهل صمتك مسرح إيمائي، يتحرك الشخوص حين تعبر أجسادهم عن الكلمة في رقص تعبيري يحمل كثيرا من الكلمات والجمل، يحمل قصة وحكاية ترويها الجدات، تحمل رسالة الهدهد من سليمان إلى بلقيس، وحكمة الغراب في قتل هابيل، تحمل صورة الترقب وهم يستهمون على يونس قبل أن يلقوه في البحر، وضجة صدر أم موسى حين ألقته في اليم، وصمت يوسف في الجب قبل أن يأتيه السيارة، ودهشة الذئب من كذب البشر.
للمسرح كلمة، وفي البدء كانت الكلمة، واقرأ أول ما نزل من القرآن، فكيف للرصاصة أن تتكلم وهي غافية في صدر البندقية، هل نطلب الحرية بالرصاص أم بالكلمة، فكلاهما قاتل إن طاش، فالثورة يشعلها رصاصة أو كلمة، والكلمة عندما خرجت من صمتها قادت الجماهير إلى الحرية كما في لوحة الفنان الفرنسي ديلاكروا، والحرية قادت العلم إلى الإبداع، والإبداع موسم الهجرة من الصمت إلى الكلمة، أطيلوا الصمت أيها الأدباء، لكن حذاري أن تطلقوا الكلمة إن لم تحسنوا رسم صورتكم في إطار المجتمع، فاكتبيني قصة يا عنان في عشاء أخير مع الحواريين في لوحة دافنشي، وقولي له، له وحده “أغدا ألقاك”.
لماذا صمتت عنان عن الكلام المباح عندما صاح الديك؟ كيف أقنعت شهريار ألف ليلة وليلة وهي تسرد له القصص والحكايا حتى أنقذت بنات جنسها من بطش كلمة لو نسيها لكان القتل مصير الأخريات؟ كيف أدخلت عنان القراء في حالة صمت عبر عنه الذهول وهي تقص لنا نوافذ معتمة، ونوافذ مشرعة، ونوافذ لم تعرف الفرح، ونوافذ عاشت الخطيئة وأخرى عاشت العقوق وشيخ جليل يسلم الروح وهو يتفقد رائحة زوجته الراحلة قبل أن يخرج عن صمته لافظا آخر أنفاسه؟
للصمت حضور بهي كما للكلمة في رحلة عنان محروس الأدبية والثقافية والاجتماعية والإنسانية، فيها تجتمع الصفات التي تؤهل القلم راسما صورة الأديب بحضوره وغيابه، بصمته ونطقه، لا يحرك ساكنا إلا بقدرما تحتمل المساحة من ضديات تفرض الجمال بوحا في عالم القاصة والمسرحية عنان محروس،فحيث تحل حضورك البهي حيث تحل تتقن فن رسالتها السماوية التي يعبر عنها بفكر وهاج يعيد للقص فراسته واتزانه بعد رحلة قلق وجودي، يعيشها المجتمع الذي ولد فيه القاص منطلقا لآفاق ترصد فيها كل لحظة متأزمة بلغة تحمل السرد والصف بقالب الجملة الموحيةالتي تحرك النص في بنائه القصصي، ولا أدل من ذلك شاهدا إلا مجموعتها القصصية أغدا ألقاك التي شكلت من النافذة عينا تطل بها على دواخلنا ومنها تفتح زاوية الرؤية على عالم أوسع.
شهادة ابداعية
تميزت بتعميق معنى الصمت الواعي والمفكر.. الصمت الهادئ، الرصاصة تشتعل ثورة والكلمة تشعل ثورة وتقودها..
الكاتبة والقاصة عنان محروس تليق بها هذه الشهادة الني ابدعها بحرفية عالية وتقنية .. الشاعر والناقد الصديق عبدالرحيم جداية
شكرا جزيلا لصديق الانيق والاديب محمد فتحي المقداد لهذا المرور