“الحقيقة ليست فكرة، ولا هي كلمة، ولا هي علاقة بين الأشياء، ولا هي قانون. الحقيقة هي شخص. إنّها كائن يسمو على كلّ الكائنات ويهب الحياة للكلّ. إذا سعيت إلى الحقيقة بمحبّة ومن أجل المحبّة، فهي سوف تكشف لك نور وجهه بقدر ما تستطيع أن تحتمل من دون أن تحترق.” (القدّيس نيقولاوس الصّربي)
الله، الكائن غير المنظور لم يره أحد قطّ. ذاك أمر لا لبس فيه إذ لا يمكن لطبيعتنا البشريّة أن تعاين الطّبيعة الإلهيّة. ولا يمكن للعين الفانية أن تعاين من لا يفنى. لكنّ ثمّة اختبار روحيّ عميق يمرّ به العاشقون لله فيرون الله. ولمّا كان الاختبار روحيّاً فلا بدّ من أنّ الرّؤية مرتبطة بالبصيرة لا بالبصر.
يشير الكتاب المقدّس في سفر الخروج (11:33) إلى أنّ الرّبّ كلّم موسى وجهاً لوجه: “ويكلّم الرّبّ موسى وجهاً لوجه، كما يكلّم الرّجل صاحبه.” تتجلّى في هذه الآية حميميّة خاصّة بين موسى والله وعبارة (وجهاً لوجه) تبيّن اللّقاء الحقيقيّ بين موسى والله ولكنّه لقاء روحيّ، من العسير شرحه بدقّة لأنّه مرتبط بموسى شخصيّاً. كما أنّ رؤية الحلّاج للرّبّ بعين القلب تخصّ الحلّاج شخصيّاً. فمهما حاولنا شرحها نبقى عند التّمتمات.
رأيتُ رَبّي بعينِ قلبي
فقُلتُ: مَنْ أنتَ؟ قال: أنتَ
واضح هو الحلّاج في قوله وصادق؛ لأنّ الرّؤية للقلب. فلم يقل الحلاج (رأيت ربّي)، بل أضاف (بعين قلبي). ذاك تأكيد على اختبار عميق ولقاء حميم بين الحلّاج والرّبّ. ولا يقتصر الحديث على الرّؤية وحسب بل ينقلنا إلى رؤيا تترادف وتجلّي الله للحلاج. (فقلت: من أنت؟) ما يعني أنّ الحلّاج لم يتعرّف على الله تماماً ولا بدّ من حوار بين الطّرفين. فمن إذا وقف أمام النّور لم تستحوذ عليه الدّهشة والرّهبة؟ ومن إذا تجلّت له الحقيقة لم ينقلب كيانه رأساً على عقب؟
بين السّؤال (من أنت؟) والجواب (قال أنت) يستبين العشق، العنصر الّذي يمكّن الإنسان من رؤية الله. الله حبّ والحبّ بالحبّ يُرى. “طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يعاينون الله” (متى 8:5). لكنّ الجواب على سؤال الحّلاج أتى صاعقاً (من أنت؟ قال أنت). وكأنّي بالحلّاج يعاين الله الّذي فيه على نور العشق. وقطعاً لم يرد الحلّاج في هذا القول مساواة نفسه مع الذّات الإلهيّة، لكنّ الإنسان يكتشف بالعشق الله الّذي يسكنه منذ الأزل فيعلن هذه الحقيقة. ما دلّ عليه قوله لاحقاً:
فليس للأينِ مِنْكَ أينٌ
وليسَ أينٌ بحيثُ أنتَ
أنتَ الّذي حُزتَ كُلَّ أينٍ
بنحو (لا أينَ) فأينَ أنتَ
الله الحاضر في كلّ مكان، حاضر في الإنسان أيضاً، لكنّ اكتشاف الحضور يعوزه العشق. في مكان آخر يعبّر الحلّاج عن حميميّة العلاقة مع الله في قوله:
عجبتُ منك ومنـّـي
يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتـّـى
ظننتُ أنـّك أنـّــي
وتتجلّى في هذه الأبيات فكرتان أساسيّتان، الأولى مبادرة الله بالقرب، فكيف للإنسان أن يعرف الطّريق إليه ما لم يأت يتجلّى الله له. يقترب الله متدفّقاً في الإنسان كالنّور الّذي لا يمكن لشيء أن يحجبه، كالماء الّذي لا يمكن لشيء أن يوقفه. (أدنيتـَني منك حتـّـى // ظننتُ أنـّك أنـّــي). وأمّا الفكرة الثّانية فهي التّفاعل مع المبادرة الإلهيّة (يا منية المتمنّي). لا بدّ من أن بتفاعل الإنسان مع المبادرة الإلهيّة ويحيا هذا اللّقاء الحميم. فالله مبادر أبداً وأمّا الإنسان فقد يدنو منه أو لا. وما هذا الدّنوّ إلّا ولوج تام في العشق الإلهيّ فينسكب الله في قلب الإنسان فيتّحد به اتّحاد الحبيب بالمحبوب. يقول القدّيس مكسيموس: “يأتي الله ليسكن بملئه في أولئك الّذين حسبوا مستحقّين”. وهم مستحقّون بالحبّ لأنّ الله حبّ صرف. ويشرح القدّيس غريغوريوس بالاماس قائلاً: “القدّيسون يسكنون بكلّ كيانهم في الله، مستقبلين الله في ملئه، وغير حاصلين على مكافأة أخرى لصعودهم إليه سوى الله ذاته.”، ما يقودنا إلى فهم أكبر لقول الحلّاج (أنا الحقّ). ومن السّذاجة أن نقرأ قوله على أنّه تطاول على الذّات الإلهيّة بل حريّ بنا أن نهيم عشقاً حتّى نتبيّن قرب الله من ذواتنا. إنّه الأقرب إلى الذّات من الذّات.
إنّ رؤية الله وجهاً لوجه تتخطّى ترجمة العقل لهذه الفكرة. ولعلّه يمكن القول إنّها رؤية الكيان الإنسانيّ للكائن الأعلى. وعندما نسمع عن رؤية الله وجهاً لوجه نتذكّر قول القدّيس مكسيموس: “إنّ التألّه هو الإستنارة المؤقنمة والمباشرة الّتي لا بداية لها، غير أنّها تظهر في أولئك المستحقّين بشكل يفوق الإدراك. إنّه حقاً اتّحاد سريّ بالله، يتجاوز كلّ عقل وكلّ استدلال، في الدّهر الّذي لا تعود الكائنات تعرف فيه الفساد. هذا الاتّحاد الّذي بفضله يصير القدّيسون بمعاينتهم نور المجد الخفيّ الّذي لا ينطق به قادرين على اقتبال النّقاوة المباركة”.
هؤلاء القدّيسون العاشقون، الهائمون في الله الحبّ، هم أنفسهم باختباراتهم الخاصّة دليل قاطع على وجود الله. إذ لا يمكن أن تهيم عشقاً بوهمٍ، ولا يُستطاع الامّحاء والتّخلّي عن هذا العالم بكلّ ما يحمل من ملذّات من أجل طيف مبهم. ولا يهدر أحد حياته ويشرّع ذراعيه للموت إلّا إذا كان مبصراً لمحبوبه الإلهيّ معاينة إيّاه حقيقة لا لبس فيها.