(الإهداء إلى لطمة أدونيس الواهبة للضّوء.
إليه غادرا ومغدورا به)
(تزول الخليقة ولا يبقى إلاّ الوردة، وردة الخالق) وأوّل صباحاتي أحتاج إلى شجرة برتقال تحضر لي قهوة ممزوجة بالزّهر وتقدّم لي مجْد ذراعيها. هذا جنون الشاعر.
(تولد الوردة فيما تموت في وردة أخرى) لتنبت أعشاب في غرف آخر اللّيل ويكون الفجر دما، عملا جميلا وذابحا، كتابةً أهواؤها إرباك السّطح وإيقاعها رجّ القراءات (قراءة الماء، الأشجار، الشمس..) وكسر خطّيّتها أبدا.
(يمتزج في الوردة الضّوء والظلّ: الضّوء تدرّج صاعد والظلّ تدرّج هابط) بعدها لن يحدث شيء سوى وقع زخّات المطر في غرف آخر اللّيل. لن يحدث شيء سوى سقوط أثمار القلب وموت الملائكة الصّغار بلا هتاف.
(للوردة وردة أخرى هي الوردة) هذا طقس الشاعر. هذا صوته الأزرق. وهذه أجنحته: الانشغال بأكثر من كتابة والدّخول في أكثر من علاقة عاطفيّة مع النّساء والأشجار والرّيح والانهمام في تجارة الضّحك والنّسيان.
(كلّ وردة حلم، لكن عندما تتلاقى وردتان يتلاقى الحلم والواقع) يلتحم البحر بالشمس كما قال آرثور رمبو، ينامان أعواما من أثر اللّوعة بلا معاطف ويهمسان: هنا إشراقات وأكوام ضوء واحتراق غابة.
(تنفينا الوردة، ولا ملجأ لنا إلاّ هي) تغار علينا من هبّة ريح شماليّة، من فتيات يتراشقن بأجسادنا ويرقصن في أصواتنا مخمورات أو مكسورات الطّرف.
(كمثل طائر في شجرة طائرة، تعيش الوردة) تبني في الرّيح أعشاشا مليئة بالزّقزقات وتسخر ممّن يعثر عليها. كذا تكون الوردة ريحا منهمكة في الضحك ألفَ عام.
(يمكن أن يكون لكلّ شيء سيرة ذاتيّة، إلاّ الوردة: الوردة هي السّيرة) الأعشاب تملك سيرتها بلا عناء وأوراق النّعناع أيضا. الشاعر سيرة وما لا نملكه أبدا هو سيرة أيضا.
(تأمّل عميقا في الوردة، وسوف ترى أنّ تاريخ التّأمل لم يبدأ بعد) أرى جماجم خضراء لشعراء أحياء من كثرة الموت، وآخرين أحياء من كثرة الحياة. وأرى أيضا، في جهاتنا الرّائعة، فتيات يتعفّفن آخر العمر، وأخريات يبدلن عشّاقهنّ مثل جوارب شفّافة وعشّاقهنّ بلّور مكسور في سماء الإيقاع. الشاعر يحيا ما لم يحدث بعدُ ويتأمّل ما حدث. يتحمّل انكسارات الماء وهزائم وردة عادت لتوّها من الحرب.
(الطّبيعة احتفال متواصل بنفسها ولا يُفتتح إلاّ بالوردة) الطّبيعة احتفال متواصل يتأفّف من أجساد صبايا مَمْخورات بالملح. الطّبيعة احتفال خالص بأجساد نساء في المراحيض وفوق الرّمال وتحت الأشجار وقرب مجاري المياه. الطّبيعة احتفال بالأجساد الخاصّة ومتاهاتها.
(الوردة منارة الجسد) ولا أذكر جسدا آخر في خضمّ اللّيل سوى الأجساد التي أكلت منها بنهم وتوحّشت فيها فملّأتني بالرّغبة والرّضى. أذكر ظلّي اليانع الذي منح حرائق شتّى ووضعها في مرآة زرقاء لا غدر فيها، في مرآة تملؤكم بخدر مسكر عال.
(لا تشعّ الوردة، هي القديمة، إلاّ بنور لحظتها الحاضرة) تشعّ الوردة دائما بما يحدث فجأة للشّاعر في مدن بحريّة لزجة مثل أوراق زرقاء لأخطبوط طريّ. تشعّ الوردة في نهود حارّة لسائحة في خريف على مرأى من البحر. سماء رغبتها المحروقة مداعبة على الرّمل المجنون. تشعّ الوردة في شفاه محمرّة في ليل أكتوبر البارد، رغبتها القصوى أن تتدفّأ بجسد بشريّ. لذلك امتلئي بالغبطة أيّتها الشعريّات المانحة للرّغبة.
(تومئ إليّ الوردة من مكان لا أعرفه) تلك كلمات الموتى اللاّمرئيّين، تأخذ فيها الوردة شكلا فريدا ليس شبيها بالتّسوّل، ليس شبيها بالسّكوت المرير ولا بملكوت البيت العائليّ. شكل له رائحة صنوبر ويوكاليبتوس وسرْو عاشق، له رائحة عابقة لغليون شاعر يبتسم دوما من حجر عاطفيّ له عضّات شتّى منها ومضة البرق..
(الوردة هي أن تكسر باستمرار السّلّم الذي يوصلك في آن، إلى ذروات الواقع وأغواره) الوردة أن تلحس بلسانك كلّ ما تحدثه من رؤى، أن تكشف العاديّ («صباح الخير» مثلا)، أن تدخل إلى عذارى بلا مغنّين، أن تغرق في اللّذة بلا مصوّرين. الوردة مثلا أن تزرع بحرا أزرق في الصّحراء.
(الشّمس وردة للطّبيعة، والنّهار وردة للّيل) معنى ذلك أنّني لن أموت، معنى ذلك أنّني أمشي باستمرار تماما مثلما تفعل الأفْعى القائظة.
(تضعنا الوردة، كلّما نظرنا إليها، أمام بداية ما) تضعنا أمام موت كهنة بلا ضجيج، أمام بنات بحريّات يتأوّهن من هسيس أوراق الرّغبة، من لطمة نداء الأرض. أصواتهنّ الحزينة على أذرع العشّاق وحلوقهنّ قد جفّت من النّداء والنّدم. تضعنا الوردة في كلامها المخصوص، في مراكب صغيرة مثل الأسنان البيضاء والمسامير المدقوقة في الغيوم. الغيوم بالنّسبة إلى الشاعر كتاب دم وأشواق صغيرة تُمسكُ بالمشارط.
(ما أبهى كيمياء اللّون والضّوء والخطّ: تعيد كلّ شيء إلى عناصره الأولى وتحوّله إلى وردة) ما أبهى الصّوت والظلّ والحظّ، تلك كيمياء الشاعر، احتفال الوردة فيه، رقصها وتحوّلها المستمرّ إلى عصافير ماء.
(من الوردة يجيء الكلام، لكنّه هو نفسه لا يتكلّم إلاّ رمزا) الكلمات تأتي من البحر. الوردة داخل الشاعر، الوردة تتكلّم، تهمس، ترى، تسمع، تلمس، تتذوّق، تشمّ.. تفعل الوردة كلّ شيء: النزق والقتل والخيانة.
(الوردة فاتحة لكتاب الجسد) الوردة فاتحة لكتاب القتلى. الوردة فاتحة لقتل العشّاق ووأْد أصابعهم في النّار.
(في الوردة تبدأ الهاوية لحظة تبدأ الذّروة) في الوردة تبدأ الأفجار. الذّروة تضع دائما، وهكذا أبدا، يدها على رأسها وتخرج. تخرج كسيرة الفؤاد، مترهّلة مثل عجوز في العشرين. الذّروة موت كهول وجدوا أنفسهم في بِرْكة آسنة.
(الوردة لوحة تسبح خارج الإطار) لتثبت ارتفاعها وتقيمَ مجهولها. هي اللاّمرئيّات الرّخوة. دعني أيّها الطائر. دعني أقضم تُويجاتها وأحترق كما يفعل كاهن قديم بنساء المعبد.
(للوردة كلام لا تعرف الأذن أن تصغي إليه) للوردة مثل ما يفعله البحر: يضع يده عل قلبه، يهدهد ريحه وينام.
(تعاشر الوردة جميع الغيوم، لكنّها لا تتزوّج إلاّ واحدة: غيمةَ الدّمع) تحيا الوردة جميع النّجوم، لكنّها لا تتزوّج إلاّ واحدة: نجمةَ الدّمع. وتلك، يا أحبّتي العوالم الصّغيرة، تلك أكوان بكاملها لا تُرى لفرط طراوتها. لا تُرى من كثرة القضبان منها قضيب النّقصان.
(السّرّ شجرة هي في الوردة غابة) هذا احتمال الصّورة. أمّا احتمال الفعل فهو شيء آخر حبيس الصّورة، لذلك لن أنتبه. الانتباه يجعلني أتألّم لهذا السقوط. الانتباه مرارة ومطر شقيّ، لذلك لن أنتبه مطلقا.
(الوردة مرفأ لضوء لا يسافر، لكنّه متأهّب دائما للسّفر) بل كانت إجهازا في كلّ بيت، إجهازا له سيقانٌ وأذرعٌ وحواسُّ مختلفةٌ. الوردة تسيل وأصابعي تلمّ الدّم.
(الوردة سفر دائم) هنا اللّذة التي ليس لها حال تُوصف أو تنقال.
(لا يُقرأ النّهار إلاّ في ليل الوردة) هذا ما تعلّمه الأشجار الميّتة من ضوء وماء. هذا ما تعلّمه إيّانا أشجار السّرو أثناء انحنائها للعشّاق. لذلك أمطرت آلاف الأعوام وصار للوردة أطفال يجرون أنهارا وصورا ملوّنة.
(في الوردة يتوحّد الضّوء والسّرّ) تتوالد أسماك الإيقاع. تتقافز الصّباحات في الطّرق البحريّة الرّخوة، واضعة أيديها على رؤوسها بينما حروفها أشبه بأمشاط الحجارة والقشّ..
هنا أذكر شيئا واحدا: الطّرقات البحريّة في هذه المدن الرّخوة رائعة عكس ما يقال: مالحة دوما ومخلوطة بلعاب التّجّار، فلأذْكُرْ تاجرا مثل «رمبو» كانت وردة أسفاره رائعة إلى حدّ لا يطاق، كانت سحر اللّهب. كانت اللّهبَ المائيَّ على شفاه لا تطاق.
(الوردة حركة: في الضّوء تتباطأ، وفي اللّون تتسارع) وهنا تحت أهدابك أيّتها الوردة، يا ضجّة نفسها حيث لم تكوني ضحيّة أحد. هنا، ليس لك إبطاء أبدا، لك تكاثر وحافز نهريّ يجدّد عروقك، فاصعدي يا إيقاعات واتركي الموتى على الأرض.
(الجسد هبوط، والوردة صعود).. إلى الأوحال المضيئة، إلى النّدى المليء بنقرات أصابع الشاعر. أصابعه تدقّ على الأرض ثمّ تنام لأنّها فعلتْ جميلاً.
(الوردة كوكب وحيد في فضاء اسمه الجسد) في فضاء اسمه حقول المغناطيس. الوردة مرايا النّسيان وأكواب لم تُشرح. أكواب تتعالق في ملكيّة حادّة ومسموعة جيّدا. تتعانق برقا ورعدا وصاعقة!
(لا تجيء الوردة إلاّ من حيث لا ننتظرها) تأتي من الجبال التي غرسناها في الإثم، في هذا البحر. تأتي من الشمس التي أمسكنا بها البحر. تأتي في هذه الصّباحات التي شرّدتنا في شجر اللّهفة المبنيّ بإحكام.
(في صخرة الوجود ماء هو الوردة) أشمئزّ منك أيّتها الصّخرة اللّقيطة. أتقيّؤك أيّها الوجود. أسمّيك أيّها الماء وأدلّ عليك.
(نرسم الوردة، فنرسم شعر المادّة الأولى وطينها الجميل: الجسد) وهَمُّ الشاعر زفّ الكلمات إلى مثواها وإعطاؤها بلاغات وسواحل أخرى.
(الوردة نقطة المركز لدائرة الكون) حتّى أنّني لا أثق بمياه حارّة أو باردة. لا أثق بالحواسّ بل بدهشتها وإيغالها في الحفر. أثق بالانهمام في كلّ شيء، بالجحيميّة بابا للكون ونوافذ للغبار القديم ثمّ كنسه أمام العتبات بمكنسة الضّوء الصّلبة.
(لا نرى في الجسم إلاّ الطّبيعة وما وراءها) نرى الجحيم المثمر أصواتا أصواتا، ونرى الموتى يسّاقطون في حفر ثلج وأرواحهم تنبح في اللّيل والنهار.
(الوردة ضوء يتجاوز الضّوء) ضوء يتقدّمنا آلاف المرّات وآلاف الأعوام، لا يكلّ من حمل الموتى وإعطائهم فرصة للتّعبير عن عواطفهم الحجريّة. ضوء يأكل أعشاب اللّيل.
(الأهداب أجنحة تطير بها الوردة) لذلك أمزّقها بجنون كبير يجعل للبحر أسماء متعدّدة وللقمح رغباتٍ بيضًا من أثر اللّوعة.
(إن كان للغموض نشيد فهو الوردة) وإن كان للوردة إيقاع فهو ذاتها، ريحها اللّينة الدّافئة الخاطفةُ أبصارَ الحروف.
(الوردة رمز لأبجديّة من الرّموز) لا يمكن أن تُرسم أو تُقال. تُعاش فقط ولا تُقال. الوردة موسيقات نهريّة. تَنقال آنًا وخطفًا.
(عندما نحيط بالوردة، نقدر أن نقول: نحيط بكلّ شيء) فكوني أيّتها الوردة زَرَدًا في الحقول. كوني أعمدة نابتة في البحر تثقب السّماوات كي لاترى أحدا. كوني قيامات قيامات. كوني أنت أيّتها المشكولة من دمع وخيوط بلّور ودم.
(الأشياء كلّها تزداد وضوحا في الضّوء، إلاّ الوردة: كلّما ازدادت تَلَأْلُأً ازدادت غموضا) الأشياء تمدّ ألسنتها الحمراء المدهشة لتهزأ بضوء المقتولين أعلى الجبال. الوردة تحمل صليبها وتمضي. تحمل «كن» على ظهرها طول العمر. تحمل «كن» ولا تئنّ لأنّها تحمل حياتها المتناثرة في كلّ مكان.
(ينزلق الضّوء على الجسم: لا يترك أثرا إلاّ في الوردة) لذلك يُترك النّدى بين النّاس ليجعل منهم عواصفَ شوق بشريّ وآثاما. لذلك أيضا كان النّدى الطّارئَ الوحيدَ على الأعشاب في صباحات الشاعر.
(الضّوء في الوردة بِذَار، والألوان الحقول) الضّوء في عيوننا شلاّلات مغربيّة والألوان في عيوننا صبايا جميلات يحرسن نوم الآخرين وينمن على الرّمل البحريّ حزانى فيما هنّ مثقلات بمدن حليبيّة. ينمن حزانى لأنّهنّ يحرسن أزهار خوف الآخرين.
(الوردة كوكب يدور حول نفسه) إذًا، موتي أيّتها الأرض بمياه النّسيان وانزلقي أيّتها الوردة على البحر. يا أجساد ويا حوافر خفيفة جدّا حيث لا يُرى لصهوتك أثر.
(ليس للموت وردة) إنّ كعب «آخيل» كان قد ملأ «اليونان» بألف وردة. إنّ انتظار البرابرة لـ«طروادة» وراء الأسوار كان قد ملأ الشّاعر اليونانيّ بألف وردة أيضا. فبأيّة وردة ملأنا الموت !؟ آه يا كعب الوردة العالي!
(عندما أرى شمس الوردة، تمتلئ عيناي بغيومها) آه يا كعب الشّمس، يا إحراجات عالية النّسج تشعل الوردة ألف عام لتحيا.
(طريقنا إلى الوردة وردة) أحيانا تكون الطّرقات السّكرى أهمّ من الوردة. اللاّإيقاع والتوحّش أثمن، بينما تزداد الخطايا لنفخر بجحيم المياه.
(لا نرى الوردة حقا، إذا رأيناها في عريها الكامل: الوردة عري /غطاء) ولا شيء آخر سيُحبّ بعدها أو يُنسى. هي عري الأحياء وغطاء الأموات.
(للوردة قيد لا تتحرّر منه إلاّ بالغموض) آه، ما أقسى قيود الوردة الواضحة مثل الشّمس، ما أقسى حداثات الغموض على خيط نهريّ مضيء، لا يؤذي فراشات اللّيل. ما أقسى مسامير الرّؤيا والغموض، لكنّه الضّوء ومسلاّت التّفاح العملاقة.
(لا يأخذ القمر شكل الوردة إلاّ حين يكتمل: يصير بدرا) الوردة لا تكفّ عن إنارة «العالم» ولا تنثني عن إطعام الموتى بعراءات أخرى، تنير حتّى الأزهار التي تمرّ بلا ريح.
(ربّما لا ماء خارج النّار، تقول الوردة) هذا احتمال الشّعر فيما تكون الوردة في مبادئها النّهريّة أشدّ حرقة وإلذاذا.
(لا تمتدّ الطّرق المتشعّبة الوعرة السّاحرة كمثل ما تمتدّ بيننا وبين الوردة) والوردة في أصلها بسيطة ذابحة، بسيطة مثل أحلام النّاس فيما يكون النّاس بسطاء مثل أوراق المشمش والنّعناع، مثل أزهار اللّوز المتهامسة في اللّيلات السّود.
(أنظرُ إلى الوردة: أضيع بين ما أراه، وما أودّ أن أراه) أضيع في أصابعي وفي الأطفال المقتولين بقوّة الأشجار، بلوز ساحلنا الأبيض وزيتونه، أضيع في الأطفال المفتونين برسائل الشّجر وبطاقاته البريديّة…
(لا تُعنى الوردة باللّقاء، لا تُعنى بالوعد) تُؤثِرُ أن تقيم في لحظة الانتظار، في الخوف وفيما ليس منها.
(ليست الوردة حيث هي، وليست في مكان آخر) إنّها حيث يد الشّاعر. حيث الغابات وحيث الرّيح المتدثّرة بالبرق.
(الوردة غيب يُلمس ويُرى ويُسمع) هي أيضا في كلّ شيء: في مواء القطط اللّيليّة استدعاءً رائعًا وفي أنّات غريزيّة لامرأة في الأربعين ينام في لذّتها رجال آخرة اللّيل. الوردة تنام في عري الأشجار مع الشاعر والوردة الأخرى في رذاذ المساء على صدرها وفي حبّها الفحميّ بشفاه لم تتوفّر لها من قبل.
(وردة الإنسان صورة أخرى لوردة الكون) للكون زجاج في أقدامه الطّريّة وللشّاعر أمتعة مغلّفة بحروف النّور، أمتعة تمكّنت منها أسنان اللّذّة.
(في كلّ وردة لا نهاية من الورود) لا نهاية من العذارى الميّتات فيها، ومن المياه والإيقاعات النّابتة من أثر أمطار السّنوات الأولى لهجرة الكائن العجينيّ، هجرة الشّعر أو ما شابهه.
(تصحّح الوردة أخطاء الجسم ولا شيء يصحّحها) لا شيء يؤلّف أشجارها المغسولة بدم القطعان سوى حدّ الخنجر القديم. يصحّحها حدٌّ جميلُ اللّمعِ.
(تتكرّر الوردة كالموج: لا تشبه أيّةُ موجة أيّةَ موجة) سوى في الخيانة والغدر وفي التّزوّج باكرا قبل الأوان.
(لا تُشرح الوردة: تُؤَوَّلُ) ثمّ تُلمس في أماكن أثيريّة، تُقطع ثمّ تموت انتقاما لنفسها.
(الوردة هي نفسها وغيرها) يمكن الاستحمام فيها شاعرا بها وبغيرها في آن. آنُها الوحيدُ يَفتح على أبدها: حبّ الأطفال بلا ملل ورمي حفنات التّراب في عيون الكهنة.
(الوردة مفرد، ولا تُجمع: كلاّ ليست مفردا ولا جمعا) الوردة امرأة تزّوجت ثمّ امتلأت بالأطفال. الوردة فتيات مقتولات ينتظرن وراء الأبواب.
(ما لا يُرى من الوردة هو حقيقة الوردة): عيونها الجميلة مثل أسئلة الخطّاف أو شجرات الدّمع. شفاهها القاتلة بسمّ الحبّ. خدودها المحرقة للأصابع. تَكَلُّفُ نكهة العشق في خاصرتها.
(لا تنكشف الوردة إلاّ بخلخلة سِماتها: بالخلخلة، باللاّصورة، نصل إلى الصّورة) الوردة تحيا العجيب والرّقراق. تحلق رؤوس القطيع.
(الوردة تحوّل دائم) نحو جحيمها. نحو فردوسها الحقيقيّ ومثواها الأخير. لا مثوى لها سواها.
(لا تحضر الوردة حقّا إلاّ عندما تغيب تقاطيعها) الوردة لها جروح أيضا متى هبّت على القرّاء آهات البحر وغزلانه وحوافر جياده.
(ليست الوردة قناعا لأيّ شيء) هي قناع الغرائز والرّغبات والجنون، حبّ مباشرة الكؤوس المثلومة والنّساء المتزوّجات وخنقهنّ بالمشاعر الشّابّة على الدّوام. ثمّ تمزيق صلصال الحروف شرّ تمزيق.
(الجسد كون فضاؤه الوردة) الوردة أكوان طريّة فضاؤها الجسد المتعدّد المختلف. مشغل الوردة إلقاء أثمار الجسد المتعفّنة في البحر لإطعام أسماك الضّوء الرّائعة وتكديس الألوان على أجنحتها وأليافها.
(الزّمان والمكان موجة واحدة في بحر الوردة) الوردة آلاف الأمواج: الموج البريّ مثلا…
(لا أوّل للوردة خارج الوردة) أوّلها الماء وآخرها النّار. ألوف النّساء داخلها وخارجها جميلات وقبيحات. أوّلها مشغولات الرّيح وآخرها مقصوصات اللّذّة وصدى خشخشة أوراقهنّ.
(ليست الوردة شكلا: هي حركة دائمة من التّشكّل) للوردة أشكال، ولا تَشَكُّلَ إلاّ بها ومنها وفيها، عكسا واطّرادا، عَدْوًا أو عداء جميلاً لا غير.
(للمرئيّ واللاّمرئيّ في الوردة، جسد واحد) للمرئيّ نهر واحد. للاّمرئيّ مبادئ نهريّة، وأضواء كاشفة لأسماك اللّيل.. لا شكّ في أنّكم تعرفون شباك الحرير وعودة رجال البحر مُصَفِّرينَ!
(الوردة متاهة: لا لقاء فنّيّا، إلاّ في المتاهة) المتاهة حداثة متعالية وفضفاضة بلا حساب. المتاهة حافز فنيّ. جواد مائيّ ذيله مقطوع بدهشة، وأجنحته لا تُرى وحوافره قرع الأرض بانتظام وطقطقة عظام الموتى وتنفّس البريد بين أسنانهم البيضاء العاملة بلا كلل.
هكذا يعود الرّجال الطّيّبون، ذوو الأصابع المغزولة بالذّهب، بمسلاّتهم الأخيرة.. ستجد فيها الزّوجات الصّغيراتُ أسماكَ اللّوعة والرّيحَ والموسيقاتِ المُمَجِّدَةَ للصّيد والشّباكَ والمجاديفَ…
—————————–
هوامش
ـ الوردة – لا مرئيّا، معارضة لنصّ نثريّ طويل لأدونيس. وتأتي المعارضة هنا بمعنى القراءة وإعادة إنتاج النصّ تأثيرا وتأثّرا، ولا تحمل «المعارضة» في حضورها هذا أيّ معنى للنّقيض حيث كلّ شيء مطابقة وعُدُولٌ في آنٍ واحدٍ.
ـ لأدونيس (ع – أ – س) ما وضع بين أقواس، من نصّ طويل له بعنوان الوجه مرئيّا «نشر في مجلّة» مواقف عدد 72.
ـ تمّ إبدال «الوجه» بالوردة رمزا. «الوردة» باعتبارها كتابةً وأنساقَ قراءةٍ وكتابةٍ لا حدود لها.
ـ القراءة مفتوحة، كَسَرَتْ «خطّيّتها» في كَسْرِ نظام (شكل/ نسق) كتابة النّصّ في صياغته «الأدونيسيّة».
ـ الصّياغة «الإيكاريّة» (نسبة إلى ايكار أو ايكاروس) قراءةٌ واحتمال شعريّ في الصّميم.
– النص من كتاب : حركات الوردة/تأملات شعرية/ دار زينب للنشر تونس 2014