((قراءة نقدية ))
استوقفتني تقاسيم الأنا بتنوع دلالاتها للشاعرالمبدع علي الفاعوريّ وأنا أمرُّ عبر فصولها الثلاثة لأتأمل هذه اللوحة البانورامية الرَّائعة الصُّور والمعاني، وانصتُ لسمفونيتها السِّرية الأخاذة التي يقودنا من خلالها “المايسترو” الفاعوريّ إلى فضاءاته الرَّحبة عبر أنواتهِ السِّت : (( أنا المقسومُ أُغنيتينِ / أنا المحكومُ بالنّارنجِ / هذا أنا .. / وأنا مصيري.. / أنا المكتوبُ أُحْجِيتينِ../أنا المنظومُ قافيتينِ(( وذلك في قصيدته (تقاسيم) (1)
لقد حظيت موضوعة الأنا بالدِّراسة والتحليل في مختلف المجالات النفسية والاجتماعية والفلسفية كما في الشِّعر. ” فلا تكاد تخلو قصيدة من القصائد من ذكر الأنا متحدثة أو موضوع حديث ليشكل حضورها البارز في الشِّعر العربي قديمه وحديثه ظاهرة تستدعي الاهتمام والدِّراسة إذ من الشُّعراء من جعل قصائده أشبه بالاعترافات الشَّخصية العاكسة لحياته المريرة التي اكتوى بنيرانها فعبَّرت عن معاناته وآلامه وأحزانه وكانت بمثابة فضاء شعري يعاد فيها إنتاج أنا الشَّاعرأي سيرته الذاتيّة من خلال أنا المتكلم “(2)
ويرى النَّاقد علي الشُّوك في تقصّيهِ لأنا المتنبيّ ، “أنه أوَّل من أعطى للإنسان قيمة بوصفه فرداً في المجتمع ،وإن استعماله لكلمة (أنا)و(أنّي)أو صيغة المتكلم في كثير من أشعاره ،وأمام الأمراء والسلاطين إنما هو إيمان بقِيمة الإنسان فلم يكن قبله من يستطيع أن يعتني بوجوده وكيانه جهراً بغير السَّلاطين والأمراء .”(3)
وفي الشِّعرالصوفيّ العربيّ كانت الأنا مثارجدل أودت بالحلاج إلى الصَّلب والاتهام بالزَّندقة حينما أطلق صرخته (أنا الحقّ ) وقصيدته ( أنا من أهوى ومن أهوى أنا ) معلنا توحده بالخالق.
وأتخذت الأنا مفاهيم واسعة تتعلق بالتَّماهي والحلول والتَّوحد ..وتصبح الأنا (هو) في الكثير من الأحيان .
وما الشَّاعر إلا (أنا) كبيرة متسامية تتماهى بذات الآخر حين يعيش الفقد والتوق ،و(أنا) تتلمس في ظلام غربته بصيص ضوء ينير له الطَّريق إلى الغد المجهول وهو يواجه عبث الحياة حين ينفخ بكِيرهِ في الفضاء.
((هذا أنا المحكومُ بالنّارنجِ
مكتوبٌ على لُغتي بأنْ تبقى
رهينَةَ أحرفِ الإسفنجِ
تعصِرُني
فأُبصِرُني
أُجفّفُ مائِيَ الشَّرقيّ
أنفخُ في الفَضا كِيري ..))(4)
فلا نار تأجَجَ لهيبُها لتمنحه أملاً وقبس نور، ولا بريق سيوف يقطع خيوط الضَّجروالسّكون ،ولذا فلا مناص من أن يتوحد بأناه .
((هذا أنا ..
وأنا مصيري ..
فلمَ المَلامُ إذا اتّخذتُ كلامَ أشجاري بريداً
للحبيبةِ
واكتفيتُ بِزمهريري ؟!))(5)
و(أناه)هنا هي في قمة التماهي بالآخر وإن أكتفى بزمهريره لكنَّه منح الحبيبة خضرة الشَّجر وتَفَتح البراعم والدفء .. نعم هي (أناه) العابقة بالعطاء ..
وتأتي الأنا الخامسة في القصيدة ، الأنا(الأحجية) لتفسر لنا توق الشَّاعر الى الكمال بالوصول إلى “الأغنية التي تفسره “.. وأيَّة أغنية تفسر ما يعتمل في روح الشَّاعر؟؟ وهل من مدى محدد يصل إليه ويستكين ؟؟ الجواب في ذلك القلق الهائل الذي يعتري الرُّوح وهي تألف وتنفر وتهفو دون سُلَّم موسيقيّ …
((عَزفتُ على مَقاماتٍ كثيراتٍ
ولمْ أظفَرْ بأُغنيةٍ تُفسّرني
ولا رئةٍ تُقشِّرني
ولا ريحٍ تسوقُ الشّمسَ نحو دمي !))(6)
ولذا فالبرد هو ما يعتري شرايين الشَّاعر حينما لا يجد الشَّمس التي تغور لعمقه وتتوحد فيه متجاوزة المألوف والسَّائد في ترانيم الحياة لتتركه في وحشة الغربة مع الروح.
أما (أناه) السَّادسة في القصيدة فهي (أنا) الفجيعة في أنْ يدرك المرء متأخرا الإجابة عن السُّؤال الأزليّ الذي يلح عليه مذ خبر الحياة ..
يدركه وهو سائر إلى نهايته بعد أن رفض تصديق الإجابات التي حفرها الآخرون على جدران الحياة وبهذا التصديق تتماهى أنا الشَّاعر بالآخر حتى لو افترقتْ عنها باديء ذي بدء :
((…مُؤلِمَةٌ كِتاباتُ الذينَ مَضوا
على الجُدرانِ
حينَ مَررْتُ محْمولاً على ظَهْري
ومَقتولاً
أسيرُ معي إلى قَبري
عَرَفتُ بِأنَّهُم صَدَقوا ..!))(7)
لقد استطاع الشَّاعر أن يمنح مقاطع القصيدة الثلاثة وحدة موضوعيّة رغم سعيه إلى أن يكون لكلِّ مقطع نهاية تشبه في قوتها نهاية القصيدة ومن الممكن أنْ تكون ثلاث قصائد متكاملة المعنى لكنها جاءت مُتَّحدة في المضمون وجعل لها رابطا إشاريا تجسَّد في ( هذا أنا ..) والذي أحكمَ بناء وربط مقاطع القصيدة الثلاثة .
إن الشَّاعر عليّ الفاعوريّ بتقاسيمهِ الرَّائعة هذه سجَّل حضوراً إبداعياً في منح أناه فرصة التماهي بالآخر والابتعاد عن الذات المتورمة التي تقتل روح الشِّعر وتسيء لقيمهِ الإنسانية النبيلة .
____________________
(1) علي الفاعوري،قصيدة تقاسيم، موقع آفاق حرة
(2) عز الدين إسماعيل ، كل الطرق تؤدي إلى الشعر ، الدار العربية
للموسوعات ، لبنان ، ط1، 2006، ص69
(3) علي الشوك، الثورية في شعر المتنبي ، مجلة المثقف ، العدد17،
1960، ص 14
(4) علي الفاعوري ،تقاسيم ، المصدر السابق
(5) المصدر نفسه
(6) المصدر نفسة
(7) المصدر نفسه
(8) المصدر نفسه