بقلم : كريم عبدالله / بغداد – العراق
النصّ : مأتم الأزرار
حين جاءت الحرب
يلا سماء
ذهب أبي إلى سواترها
ذهب ولم يعد
فتشنا في كل القوائم
الشهداء والأسرى
لم نعثر على اسمه
فسجل مفقوداً
فأمي قبل ذهاب أبي
خاطت أزرار قميصه
إلا واحدا نسته
ومن يومها
أخذت تحدثنا عن ذنبها
وأهمية هذا الزر
في حفظه من الأقدار
في الحروب
و .. و
واضطررنا لإرضائها
بتشييع هذا الزر
إلى المقبرة
وإقامة مأتم عليه
تحولت أمي إلى إبرة
تخيط كل زر تجده أمامها
ومنذ تاريخها
لم نستطع أن ننزع
قمصاننا
لكثرة أزرارها
وإبرة أمي ما زالت تخيط
حتى ذاكرتنا …. !
وأبي مازال مفقودا .
يبدأ هذا المأتم بجوّ جنائزي مشحون بالخوف والرعب الشديد والترقب والانتظار لحصول الكوارث والمرارة / حين جاءت الحرب / لنجد أنفسنا داخل ساحة المعركة نسمع اصوات الانفجارات وازيز الرصاص ودخان المدافع وغبار السواتر الترابية حين يمزّقها الرصاص , وجها لوجه أمام الموت المؤكّد والفقدان وأشلاء الجثث تفترش الارض وانهارا من الدماء تروّي ارضا لم ولن تشبع من القرابين المقدّمة لأفواهها المسنونة حين تلتهم كل شيء . فبينما تأتي الحرب تكون لها عواقب وخيمة تفرض نفسها على الواقع المعاش سواء على الطبيعة او الانسان , وتسبب للاخير الكثير من الازمات والنكبات وتظهر لديه نتيجة عوامل القهر والقسوة والدمار الكثير من الاضطرابات النفسية والامراض الجسمية , وتولد عدم الثقة والخوف وضعف القدرات وعدم المقدرة على العيش بسلام وامان ضمن المجتمع وتجعل تفكيره ذاتيا محدودا فيستسلم للوساوس القهرية والخوف من القادم من الزمن على نفسه ومستقبله فيصبح عاجزا عن ممارسة حياته ضمن المجموع نتيجة الاحباطات والتجارب المريرة التي عاشها ويعيشها . في أتون هذه الحرب حدث الفقد والاختفاء من الواقع / ذهب أبي الى سواترها / ذهب ولمْ يعد / رغم ان الشاعر لم يصرّح بحجم الكارثة وتبعاتها الا اننا نستشفّ من خلال المفردات هذا الرعب , لان هذه الاحداث المروّعة ستترك آثارها على مَنْ عاشها وتفاعل معها وذاق طعم عذاباتها فتظهر مجموعة من الاضطرابات النفسية خاصة على الاطفال , مما يسبب لديهم معانات وذكريات مؤلمة ستبقى معهم ترافقهم وكأنها تحدث الان وأمام انظارهم . ان الشاعر يستدرجنا الى هذا العالم المرضي بهدوء ويهيّئنا ان نعيش ونتفاعل مع ابطاله ونشاركهم محنتهم وظهور الشخصية العليلة المظطربة . / فـ أمّي قبل ذهاب أبي / خاطت أزرار قميصه / إلاّ واحدا نسته / ومن يومها / أخذت تحدّثنا عن ذنبها / وأهمية هذا الزرّ / في حفظه من الأقدار / في الحرب / و .. و / . نتيجة لحالة اللاغياب و اللاحضور للأب ذهبت هذه الشخصية / الأم / ولا شعوريا في ممارسة فكرة خاطئة تسمّى في الطب النفسي / الموضوع المريح / او المادة الوسطيّة / او الغطاء الآمن / فهو طريقة تفكير وفعل لأعطاء الراحة النفسيّة خاصة في الحالات الغير طبيعية والمنفردة , وهنا قد تظهر بأسماء مستعارة لها علاقة دائما ما بين الطفل والأم وتنشأ في مرحلة الطفولة , وهي حالة وسطى ما بين النفس العميقة والواقع ( الفضاء الانتقالي ) . هنا يمكن ظهور الموضوع الانتقالي الى الطفولة حيث ينفصل نفسي وليس نفسي ( أنا – وليس أنا ) Me and not me حيث الانتقال من الاعتمادية على الاهل وخاصة الأم الى الاستقلالية , يرى الطفل الأم كانّها كل الكون فتأتي لحظة الصورة الخادعة نتيجة الاحباط والقلق في الطفولة , يأتي الطفل بفكرة ان الأم والأب لا يستطيع جلب العالم اليه وليس بتلك القوة كما كان يفهمها هذا الفهم الجديد , سيصبح مؤلما لذا يعوّض بالفنتازيا , بمعنى أن الأب او الزوجة كلّي القدرة لا يمكن ان يموت , وقد تتخذ المواضيع المريحة عند الكبار مواضيع لها علاقة بالثقافة والمعتقد والبيئة والموروث الشعبي كما في حالة / الأم / في قصيدة الشاعر / عباس باني المالكي / .لقد نبعت هذه الفكرة الخاطئة من الشخصية العليلة التي رسمها الشاعر هنا لتنامي التفكير الدائم والمشوّش لضعفها وقصورها , فجعلتها تتصوّر وتتعايش مع الواقع الجديد وتصرّ على التمسّك بهذه الفكرة والاستمرار عليها والتعوّد وكأنها جزء اساسي ومهم في حياتها ولا يمكن لأي سبب كان التخلّي عنها واحساسها الدائم بالحاجة اليها والى ممارستها / تحوّلت أمي الى أبرة / تخيط كلّ زرّ تجده أمامها / هنا تتحوّل لغة النصّ الى لغة فنتازيا يجيدها الشاعر فيأخذنا معه الى عوالمه الغريبة والمستفزّة والمثيرة , حيث يتناول الواقع بطريقة غير خارجة عن المألوف وبطريقة ابداعية ذكية وتلعب المخيّلة المنتجة والألهام دورا كبيرا في صياغة النصّ وابتكار عالم ساحر / غريب / ومثير / ومدهش . لو حاولنا التوقف هنا أمام شخصية الأم ونظرنا اليها من منظار آخر كما في هرم ماسلو* الخاص بتدرج الحاجات الاساسية للانسان كالحالة الفسيولوجية وحاجات الأمان والحاجات الاجتماعية والحاجة للتقدير والحاجة الى تحقيق الذات , سنجد ان هذه الشخصية بحاجة اشباع وان عدم اشباعها سيؤثر على السلوك مما يسبب توترا نفسيا واحباطات والآما نفسية وستؤدي بالنهاية الى العديد من الحيل الدفاعية التي تمثّل ردود افعال يحاول الفرد من خلالها ان يحمي نفسه من هذا الاحباط والمعاناة . ان شخصية / الأم / المضطربة انما قامت / تخيط كلّ زرّ تجده أمامها / جعلها تؤمن بان ممارسة هذه الفكرة ( الخاطئة ) تبعث فيها الاطمئنان الروحي كرّد فعل لفقدان الحاجات العاطفية والعلاقات الاسرية واكتساب الاصدقاء , هذه الشخصية اصبحت منطوية على نفسها فاصبحت عرضة لهذا القلق والعزلة الاجتماعية والاكتئاب . / ومنذ تاريخها / لم نستطع ان ننزع / قمصاننا / لكثرة أزرارها / هنا نجد التأثير السلبي على شخصية الاطفال نتيجة لحالة فقد / الأب / والاضطراب السلوكي والممارسة الخاطئة من قبل / الأم / مع اطفالها , لقد كانت تكبّلهم بـ / الأزرار – القيود – الحرص الشديد – الاهتمام الفوق طبيعي بهم – والمغالات بالاهتمام / مما اثّر سلبيا على شخصياتهم عندما كبروا وتركت بصماتها واضحة في نفوسهم لانهم لم يستطيعوا الخلاص منها / لم نستطع ان ننزع قمصاننا – لم يتمكنوا من الخلاص من هذه الدائرة المغلقة التي حبستهم / الأم / فيها . / وإبرة أمي مازالت تخيط / حتى ذاكرتنا …. ! / وابي مازال مفقودا / هنا نجد الاستمراية والاصرار على ممارسة هذه الفكرة الخاطئة من قبل / الأم / على اولادها , فذاكرتهم أصبحت مكبّلة بسطوة / الأم / وما علامة التعجب والنقاط الاربعة / ….! / ربما هي دليل على وجود اربع اخوة عاشوا تحت سطوة هذه / الأزرار – القيود / حتى هم انفسهم يبدون تعجّبهم كيف استمرت حياتهم هكذا وانطبعت كل هذه المعانات في ذاكرتهم . / وابي مازال مفقودا / هكذا يترك لنا الشاعر التساؤلات الكثيرة حول مصير الانسان وجعل من الزمن مفتوحا والنهاية تعجّ بالمفاجات .
ان حالة الاصرار لدى / الأم / وممارستها لهذه الحالة السلوكية المضطربة ربما لا شعوريا مارستها كي تثبت بانها موجودة في هذه الحياة , فهي موجودة مادامت تفكر , موجودة داخل الاسرة وفي نفوس ابناءها فرغم / واضطررنا لأرضائها / بتشيّع هذا الزرّ / الى المقبرة / وإاقامة مأتم عليه / الا انها لم تقتنع او لم تتشافى من هذه الحالة المرضية وبقيت تمارسها وتعتاد عليها . ان هذا النصّ عبارة عن رحلة البحث عن المفقود والبحث عن استقرار الذات المعذّبة , وربط الايمان بالامور الغيبة بعدما عجزت الذات عن وجود الدليل المقنع , وجلد الذات بسبب عدم الاحتفاظ والمحافظة على الشيء وفقدانه واسقاط المصيبة على امور اخرى . بالتاكيد ان البيئة التي حدثت فيها / الصدمة – الفقد / هي مهيّئة لتقبّل هذه الحالة وقد يراها البعض حالة ايجابية من قبل / الأم / في المحافظة على اولادها لئلا تلتهمهم الحرب كما التهمت / الأب / الا ان ذلك يشير الى اضطراب سلوكي غير طبيعي كانت تعاني منه نتيجة الغياب الجسدي فأصرّت على حضوره الروحي من خلال ممارسة هذه الفكرة وعدم التخلّي عنها في محاولة لاشباع هذا الفراغ لديها ومحاولة الاحتماء بالامور الغيبية بما يتناسب مع ثقافة البيئة والموروث الشعبي .
انّ الفنتازيا الابداعية لدى الشاعر / عباس بانس المالكي / صوّرت بدقّة متناهية مشاعر هذه الاسرة وتذوّقنا معهم طعم المرارة والمعاناة نتيجة حالة الفقد بسبب الحروب الرعناء , لقد صوّر لنا بحنكته هذه البئية المضطربة سلوكيا وجعلنا نتعاطف مع واصحابها . انّ هذا النصّ عبارة عن صرخة عالية في وجه الحرب من اجل ايقافها وايقاف النزاعات , لان الخاسر فيها هو الانسان , فاما ان يموت او يُفقد كما في هذا النصّ واما ان يبقى يعاني كما في شخصية / الأم / واما ان تترك الحرب بصماتها على الاجيال ترافقهم والخيبات الى امد بعيد كما في اولادها .
*ماسلو : هو عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو قام بصياغة نظرية فريدة ومتميزة في علم النفس ركز فيها بشكل أساسي على الجوانب الدافعية للشخصية الإنسانية. حيث قدم ماسلو نظريته في الدافعية الإنسانية Human motivationحاول فيها أن يصيغ نسقاً مترابطاً يفسر من خلاله طبيعة الدوافع أو الحاجات التي تحرك السلوك الإنساني وتشكّله.