قراءة في قصيدة ” ماذا جنيت من الهوى” للشّاعر المصري إبراهيم الشّافعي
– النّصّ:
ماذا جنيْتُ منَ الهوى
إلَّا الشقاوةَ والنَّوى
والجَمرُ بينَ الأضلعِ
فوقَ الضلالةَ قد غوى
يا سائلي عن مهجتي
عن خافقي عمّا حوى
فيه السِّقامُ ولوعتي
غابَ الطبيبُ كما الدوا
لمَّا بدا من ناظري
سارَ الحبيبُ إذِ انزوى
طال العتابُ ولامني
كلُّ الذي قبلي هوى
ولقد تركتُ مُعاتبي
ما ذاقَ مثلي وارتوى
لو ذاقَ يوماً شهدهُ
ما حجَّني حتَّى اكتوى
يا سائلي عمّا جنى
قلبي جنى ما قد روى
– القراءة:
“قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن
بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى؛
عني خذوا، وبيَ اقْتدوا، وليَ اسْمعوا،
وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى” (ابن الفارض)
في حركة دائريّة ضمنيّة صاغ الشّاعر إبراهيم الشّافعي قصيدة تحمل في طيّاتها نفساً صوفيّاً سائراً باتّجاهين، الأوّل مخاطبة النّفس كنوع من التّأمّل في الحالة العشّقيّة، والثّاني باتّجاه الآخر المراقب للحالة أو المتحيّر منها. فتشكّلت دائرة القصيدة من خلال افتتاحيّتها بحديث النّفس (ماذا جنيْتُ منَ الهوى/ إلَّا الشقاوةَ والنَّوى) واكتملت بتوجيه الخطاب للآخر (يا سائلي عمّا جنى/ قلبي جنى ما قد روى). لكنّ الدّائرة مكتملة ظاهريّاً في القصيدة وغير مكتملة في قلب الشّاعر. فحديث النّفس والتّأمّل في حالة الشّقاء الّتي بلغها بفعل الهوى لا تنمّ قطعاً عن بلوغ ارتقاء صوفيّ معيّن أو بلوغ مقام علويّ يؤكّد ولوج الشّاعر في قلب الحقيقة العشقيّة. فالهوى والشّقاوة يتعارضان في البيت الأوّل ولا يتّصلان ليبلّغا تمام المعنى. فيبدو للقارئ وكأنّ الشّاعر يرثي حاله غير متلذّذ بعذوبة الهوى والعشق. إلّا أنّه يستدرك القول في البيت الآتي: (والجَمرُ بينَ الأضلعِ/ فوقَ الضلالةَ قد غوى) ليعبّر عن حرقة الشّوق والتّوق. لكنّ هذا الاستدراك لا ينفي التّحيّر الضّمني الّذي يختلج به قلب الشّاعر. فهو إمّا يستحضر الحالة الصّوفيّة من أعماقه، وإمّا يصف ملامحها من الخارج. فيستقطع حديث النّفس وينتقل مباشرة إلى الحديث مع سائله، ما يضعف وصف الحالة المرتبطة بالعذاب لا بالألم الصّوفيّ النّاتج عن الشّوق الّذي يضيق به صدر المتصوّف. إنّ الانتقال المباشر من التّأمّل الذّاتيّ إلى مخاطبة السّائل ترجَمَ رؤية الشّاعر الخارجيّة للحالة الصّوفية. فوكأنّي به يتوق إلى الحالة العشقيّة الفطريّة، مريداً إيّاها ومجتهداً في إدراكها. فبانتقاله من الذّات نحو الآخر قطع على الحالة تدرّجها وارتقائها، ما يعيق التّوغّل في التّأمّل عميقاً حتّى بلوغ هذه الحالة.
يا سائلي عن مهجتي
عن خافقي عمّا حوى
فيه السِّقامُ ولوعتي
غابَ الطبيبُ كما الدوا
لقد استخدم الشّاعر مصطلحات ترسم شكلاً من أشكال الحالة الصّوفيّة، لكن غاب عنها عنصر الدّهشة الصّوفية. (الهوى/ الحبيب/ السّقام/ اللّوعة…) إنّ دهشة المتصوّف عنصر أساسيّ في القصيدة أو في التّعبير عن العشق، لأنّها لا تصف الحالة وحسب وإنّما تلوذ داخلها وتُحدّث بها بجماليّة خاصّة تحرّك روح القارئ وتحلّق بها. فلو تأمّلنا قصيدة ابن الفارض (زدني بفرط الحبّ فيك تحيّراً) وجدنا عمق الألم الصّوفيّ المرتبط برؤية الجمال. فيمزج ابن الفارض الألم بالجمال إذ يقول:
إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة ، فَمُتْ بِهِ
صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا
ثمّ يتابع ويقول:
ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا
سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى
الغرام هو حالة العذاب الشّديد بيد أنّ عبارة (سرّ أرق من النّسيم) بيّنت جلال المشهد وعذوبة العذاب. ما غاب عن قصيدة الشّاعر إبراهيم الشّافعي. إذ حضر العذاب ووصفه وانتفى الشّفاء منه دون ارتباطه برؤى خاصّة تبيّن عذوبة الألم العشقيّ. لكنّه يعود مرّة أخرى مستدركاً الحالة قائلاً:
ولقد تركتُ مُعاتبي
ما ذاقَ مثلي وارتوى
يلتمس الشّاعر العذر للنّاظر إليه أو المتحيّر من أمره، فحالة الارتواء الّتي تخلقها الحالة العشقيّة نتيجة ألم الشّوق لا يشعر بها إلّا الّذي مرّ بذات الاختبار العشقيّ. ولا بدّ من الإشارة إلى ضرورة الاختبار الشّخصيّ العميق في صياغة التّعابير الصّوفيّة حتّى لا تبدو متكلّفة ومتخيَّلة، فتنحصر جماليّة المعنى في الألفاظ والتّعابير دون أن تخترق الرّوح وتلزمها التّحليقُ عالياً.
لو ذاقَ يوماً شهدهُ
ما حجَّني حتَّى اكتوى
يلاحَظ في هذا البيت أنّ الشّاعر استخدم فعل (حجّ) أي قصد أو زار. ولا ريب في أنّ الشّاعر لم يرد الوقوف على المعنى الظّاهري للفعل بل أراد منح البيت طابعاً قدسيّاً. إلّا أنّ فعل (حجّ) يعود إلى الشّاعر، فهل أراد التّعبير عن حالة تتأرجح بين الخطو نحو الحالة الصّوفيّة أم أنّ النّاظر إليه انجذب وتحيّر وسأل؟
ارتسمت القصيدة بشكل دائريّ، كدلالة على الطّواف الصّوفيّ لكنّ الشّاعر ظلّ ثابتاً في مكانه مكتفياً بالنّفس الصّوفيّ مفتقداً للاختبار الشّخصيّ. فالقصيدة الصّوفيّة تستلزم اتّجاهاً عموديّاً وأفقيّاً، عموديّاً نحو العلو وأفقيّاً نحو العمق. فالشّاعر اكتفى بالاتّجاه الأفقيّ دون جذب المتلقي إلى حيث دوائر العشق ترتقي وتبلغ المقامات الّنّورانيّة.