أدبُ القضية في السرديّة التعبيريّة / بقلم : كريم عبدالله بغداد العراق

في ( كفُّ السماء .. للشاعر : رياض ماشي محسن ) … و تَجَلّياتُ راهِبٍ في حَضْرَةِ الرَأْسِ الشريف ../ بقلم : كَامِل عبد الحُسين الكَعْبِي )
العِراقُ _ بَغْدادُ

 

رغم حداثة القصيدة السرديّة التعبيرية وقصر فترة إنبثاقها من قصيدة النثر العربية إلاّ انّها أصبحت معروفة للكثير من القرّاء وأصبح لها كتّابها ومتابعيها وكُثر الحديث عنها والجدل حولها , وما هذا الاّ دليل على جماليتها وتحقيقها غاياتها والمضي بثقة نحو الامام واثبات أحقيتها في المنافسة مع بقيّة الاجناس الادبية والبقاء على الساحة الشعرية . فالمتابع لمجموعة السرد التعبيري على موقع التواصل الاجتماعي سيقرأ كل يوم شيئا مختلفا عما سبقه ويتلمس مراحل التجديد والنضوج والدهشة في قصائد هي في غاية الجمال والابداع وزخم شعوري عنيف وسعة في الخيال والرمزية المحببة واللغة المتوهّجة بانزياحاتها وعذوبتها والسعي لأنبعاث الشعر الكامل من النثر الكامل . فنحن عندما نكتب الشعر على شكل نثر ففي النهاية سيكون شعرا , فإن الفرق بين الشعر والنثر ليس الوزن والقافية ولا الصورة الشعرية , إنما الفرق بين النثر والشعر هو إحتواء الشعر السردي على السردية التعبيرية , ولا نقصد بالسردية التعبيرية الحكاية أو القصّ أو التوصيل , بينما السرد النثري اما قصصي حكائي يقصد الحكاية واما توصيلي بشكل خطاب او رسالة . وعليه فانّ السرد التعبيري لا نقصد منه الحكاية او الوصف وبناء الحدث , انّما نقصد الأيحاء ونقل الشعور والأحاسيس العميقة وتعمّد الأبهار فيكون تجلّي لعوالم الشعور والاحساس وكذلك تفجير وتعظيم طاقات اللغة وانزياحاتها المشرقة بالجمال والدهشة . انّ القصيدة السردية التعبيرية نجد فيها المجاز / الخيال / الموسيقى / الصورة / الأيحاء / الرسالية والاخيرة نجدها في بعدين الأول الرسالة الجماهيرية وهي المتبادر من العمل الأنساني والبعد الثاني الرسالة الجمالية , في القصيدة السردية التعبيرية نجد الرسالية بوضوح متحققة في كتابات كتّاب مجموعة السرد التعبيري , فانّ هذه الكتابات حققت لغة ابداعية جديدة ومتميّزة والتمثيل الأنساني وهما يحققان الرسالة الجماهيرية وكل ذلك يجسد الرؤية العميقة والواضحة التي هي عنصر من عناصر الرسالية .

سنحاول هنا البحث في الرسالية الموجودة في القصيدة السردية التعبيرية , وسنأخذ نموذجين عن قضية الأمام الحسين عليه السلام في واقعة الطفّ الدمويّة لكون هذه القضية مرتبطة بالسماء وفي الضمير الانساني , فأنّ الله سبحانه وتعالى يقول عمن يُقتل في سبيله :  ( ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّك يُرزقون … قرآن كريم ) . وانّ النبي محمد ( ص ) بقول : ( إنّ لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً ..حديث نبويّ ) . وانّ الامام الحسين ( ع ) يقول :  ( إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي .. الامام الحسين عليه السلام ) . اذا القضية ليست قضية عادية فهي قضية الانسان وصراعه ضد قوى الظلام من اجل الحياة الكريمة والعيش بسلام وأمان . لهذا فان الحديث عنها يُدمي القلوب ويهيّج المشاعر , فلقد  ذكر الجاحظ أنه قيل لأعرابي : مابال المراثي أجود أشعاركم ..؟فقال له : لأنّا نقول وأكبادنا تحترقُ . لهذا اصبحت هذه القضية حاضرة في الادب الحسيني وكتب عنها كتّاب عرب وأجانب ومن المسلمين وباقي الديانات الاخرى لخصبها ولعظيم الرمزية فيها . لقد إتخذ الشعراء من قضية الامام الحسين عليه السلام ومظلوميته و نهضته ضد الطغيان والفساد حضورا كبيرا ومستمرا على مرّ التأريخ منذ استشهاده وأهل بيته وجميع أصحابه والى الان , ظلّت القصيدة الحسينيّة حاضرة وبقوّة كلّما إشتدّ الظلم والطغيان فكانت عامل تحفيز للجماهير ان تنهض من جديد تقارع الطغاة وتستنهض قيم الرجولة والوفداء والبطولة والشهامة وأصبح لها حضورا متميّزا ومؤثّرا في الحياة وبقيت مشتعلة في ذاكرة التاريخ وفي نفوس المحبين للعدالة والخير  والتسامح والكرامة , لتحريكها لمشاعر الملايين ولعمقها في الوجدان الانساني وللمبادىء التي من أجلها كانت ولثراء معجمها , فاصبحت مصدر إلهام وإستفزاز وموضوعا خصبا وجد فيه الاديب بصورة عامة والشاعر بصورة خاصة ضالته واستخدام الرموز فيها , فأصبحت ملحمة تتجدد كل عام بشخوصها الحاضرة في النفوس متحركة ملتهبة لا تهدأ أبدا .

النموذج الأول :

( كف السماء ../ بقلم : رياض ماشي محسن .


سجد النخيل على ضفاف الفرات يبحث عن كفي غريق بالوفاء مزق جدار الموت واعلن صرخة حب بين رمال خجلة تحمل قوانين الهجير، اي كف سقطت بين اسنة الرماح وقربة عليها ثوب الخجل تنادي ياسكينة يا ورود السماء لم اف لم احمل نسيم الماء مزقتني سهام الظلام وخيول اعوجية لا ترى سوى همهمة نيران واصوات مغلفة بجدران جهنم تحيط بذاك النهر، جسد مقفى بآيات نبوية تغطيه الجنان وعين سرقتها الطفوف وأخرى قبلتها الدماء حتى سالت أودية الشوق إلى ذلك الحبيب، أيا قمرا قد دنى وتدلى من أنفاس الرحيل، صوت خلف الشمس يتهجد أجساد الابات كلما افلت نجمة في تلك الصحراء تلونت عين السماء حتى سالت على خدها الدماء، أيا حجرا مالك ترتعش فزعا من هول المصاب كتب القلم وجفت الصحف وعلت في باطن الارض بساتين الجنة، هنا بكى الماء وعلت أصوات الحرية حتى شقت جدران السنين إلى يوم الخلاص الموعود . ) .

في هذا السرد التعبيري والذي كُتب بالطريقة الافقية ( الكتلة الواحدة ) , نجد تصويرا رائعا وذكيا من قبل الشاعر وهو يتحدّث عن أحد ابطال واقعة الطفّ الدمويّة الا وهو سيدنا ( العباس بن عليّ بن أبي طالب ) أخو الحسين من أبيه وكيف قُطعت كفّاه يوم الواقعة ../ سجد النخيل على ضفاف الفرات يبحث عن كفي غريق بالوفاء مزق جدار الموت واعلن صرخة حب بين رمال خجلة تحمل قوانين الهجير ../ , تصوير مدهش لهذه الشخصية التي تمثل الايمان الصادق والبصيرة النافذة والوفاء والشجاعة والتضحية في سبيل المبادىء والقيم الانسانية الرفيعة ../ اي كف سقطت بين اسنة الرماح وقربة عليها ثوب الخجل تنادي ياسكينة يا ورود السماء لم اف لم احمل نسيم الماء مزقتني سهام الظلام وخيول اعوجية لا ترى سوى همهمة نيران واصوات مغلفة بجدران جهنم تحيط بذاك النهر ../ . انّ هذه الشخصية ارتبط اسمها بالماء اضافة الى ما تمثّله في واقعة الطفّ ودورها المحوري والبارز فيها ../ هنا بكى الماء وعلت أصوات الحرية حتى شقت جدران السنين إلى يوم الخلاص الموعود ../ , ونجد ذلك في النصّ من خلال تكرار مفردة الماء وما يشابهها حيث ذكرها الشاعر ( 6 ) مرّات , لأنّ هذه الشخصية كانت آخر مَنْ بقي مع الامام الحسين عليه السلام من اهل بيته واصحابه , فكانت مهمّته قتال الاعداء وجلب الماء الى مخيّم الامام الحسين . من خلال العنوان / كفّ السماء / يبعث لنا الشاعر برسالة مفادها بانّ كفّ هذه الشخصية كان مصدرا للعطاء والخير والمحبة والسلام لانّها تشبه السماء في السخاء والعطاء عن طريق المطر , كلّما ذُكر الفرات ذُكر عطش الحسين واهله واصحابه بعدما مُنعوا من شرب الماء في المعركة واستشهدوا جميعا عطاشى , هنا يصوّر لنا الشاعر  المعركة التي قطعت فيها كفيّ ( العبّاس ) .النصّ كتلة زاخرة بالعطاء والابداع تتجلّى فيه البوليفونية اضافة الى رسالته بتعدد الرؤى والأصوات وبروز شخوص نصّية وحدثية وتعبيرات نصّية أسلوبية كاشفة عن الرؤى .

نجد هنا قضية ورسالة تتمثّل بإيصال الماء والصراع لأخر لحظات الحياة من أجل تحقيق هذه القضية وإنجاح الرسالة , اضافة الى ذلك ومن خلال الجو العام للنصّ نستشعر عمق الظلم وقسوة النفوس حينما يتملّكها الشيطان وكيف تتصرف على مسرح الحياة ببطشها وجبروتها

 

النموذج الثاني :

تَجَلّياتُ راهِبٍ في حَضْرَةِ الرَأْسِ الشريف ../ بقلم : كَامِل عبد الحُسين الكَعْبِي )
العِراقُ _ بَغْدادُ

 

ظأيّها النورُ الساطِعُ ببهائهِ إلى عنانِ السماءِ السابحُ في مَلَكوتِ الأقْداسِ وضياءِ الأَمْلاكِ يا مَنْ اختزلتْ على قَسَماتِ وَجْهكَ كُلّ الأَنْوارِ وارتسمتْ على مُحَيّاكَ خارطةُ الظُلاماتِ ومخططُ العذاباتِ ، فِداءً لمحاسنكَ التي لمْ تُغيرها الحُتُوفُ ولمْ تُبدلها الطُفوفُ ، كَفِّي ترتجفُ وهي تنحتُ الضميرَ بصخرِ الآثامِ وترسِمُ الطُهْرَ والنقاءَ بطينِ المَعاصي المُضَمّخِ بنجيعِ الدماء ، استمدُ العَزْمَ من انعكاسِ مِرايا الكَوْنِ على رأسكَ القاني ووجهكَ المُخَضّبِ بالدماء ومن عناقيدِ الكَوثَرِ المُطِلّةِ على دوالي الرُوحِ ، أيّ الأَناشيد قَدْ عزفتْ مقطوعة الإباءِ وأيّ التراتيلِ قَدْ ردّدتْ ترنيمةَ الفِداء وأيّ قَدَرٍ ساقكَ إليّ وقضاءٍ جَرّني اليكَ وأنا أقفُ مُتَسمّراً في حَضْرةِ قُدسكَ المَهيبِ وجلالكَ الرهيبِ ، للهِ سحابٌ حملتْ تلكَ المُزَنِ المُوَشّحة بالنقيعِ والمُوشّاة بالنَجيع لتَرمي بها شُهُباً مُتَجمرات تصبغُ لونَ السَماءِ بالأَحْمرِ القاني على زمنٍ قُرمزي المَعَالمِ دَمَويّ الأَطْيافِ ، كُلّ ابتهالاتي وصَلَواتي قَدْ تَحَجّرتْ على رصيفِ الرَهْبَةِ في هَشَاشةِ المَوقفِ وذُلّ الإنقيادِ ، سَيّدي اعذرْ قُصْرَ ليلي عنْ إدراكِ مُنَاجاة صُبْحكَ في مِحْرابِ فَجْركَ المُنيفِ ، أيّ تَجَلياتٍ سيرسمُها القَدَرُ بأَيْدي العبدِ الضعيفِ على لوحةِ السَرابِ ثِيْمَةٌ لها من كواكبِ المَجْدِ ألفُ شَبَهٍ وألفُ صورةٍ ومثالٍ ، باصِرتي ترسمُ بحرَ العفافِ بأمواجهِ وألوانهِ الساحرةِ فكيفَ لي بأعماقهِ وأغوارهِ الفسيحةِ التي ليسَ لها قرار ، كيفَ ستتجسدُ صُوَرُ المِثالِ في انعكاسِ عَينيكَ المُغرورقتينِ باللآلِئ والدُرَرِ الكرستاليةِ وصوت تهجدكَ وترتيلكَ المَبْحوحِ بالنشيجِ ، يا سَيّدي لا أملكُ سوى هذا الرأس الشبيه لأُقَدمهُ قُرباناً لنورِ فَجْركَ الذي بَزَغَ في روعي واشراقاتِ مَجْدكَ التي اندلقتْ في قَلبي وروحي لتتفجر عُيون الودادِ وتَنْبجس ينابيع الولاءِ في صُخور روحي الصَمّاء ونفسي البَكْماء ليُولد الأَملُ ويكبرُ الرَجَاء .

………………………………………….
راهِبُ ( قَنْسرين ) تقعُ في طريقِ مَسيرِ السَبايا ، وقدْ تَشَرّفَ هذا الراهبُ بنحتِ تمثالٍ لرأسِ الإمامِ الحُسين عليه السلام وهُوَ موجودٌ حالياً في متحفِ اللوفر في باريس .

 

في هذا السردي التعبيري النموذجي والمدهش جدا تتجلّى السردية التعبيرية عن طريق الزخم الشعوري العنيف والواقعية التعبيرية الممزوجة بالهمّ المشترك والحزن العميق وبسردية تعبيرية تبلغ اهدافها الشعرية والانسانية في أدب قضية  , هنا  يتحدّث الشاعر عن الرأس الشريف للامام الحسين عليه السلام بعدما قُطع وبقية رؤوس الشهداء في واقعة الطفّ وتمّ رفعها على أسنة الحرب وطافت البلدان تتبعها السبايا من أهل بيت الحسين , والراهب النصراني الذي قام بعمل مجسّم من الرخام  للرأس الشريف , لقد وجد هذا الراهب بانّ مقتل الحسين يتطابق مع مقتل السيد المسيح وانّهما يمثّلان قضية واحدة مشتركة مصدرها السماء ,  انهما يمثلان قضية الوقوف ضد الظلم والفساد والانحراف في الأمة والجهاد في سبيل الله وأعلاء الحق مهما كانت النتائج . لقد وجد الشاعر في هذه الحادثة نقطة لقاء خلّدها التاريخ بين الديانة المسيحية والاسلامية متمثّلة بشخصية الراهب النصراني وراس الامام الحسين عليه السلام , فلقد سخّر الموروث كنقطة انطلاق وتزاوج ما بين الماضي والحاضر وسخّر هذه القصة وأعادها الى الواقع من جديد تجسّدت بحوارية من طرف واحد وببوح عميق وزخم شعوري كان واضحا من خلال المفردات / الأناشيد / التراتيل / ترنيمة / ابتهالاتي / صلواتي / مناجاة / تهجدك / ترتيلك / النشيج ../ وكذلك من خلال / المقاطع النصيّة الكتابية والسرد الظاهري والرمزية والايحاء وممانعة السرد وببوح شعري وبالشعرية الناتجة من هذا النظام ./ .

لقد استخدم الشاعر هنا رمز الحسين عليه السلام من خلال / الرأس الشريف / لانها أتاحت له أن يأتي بكل جديد لما لهذا الرمز من عمق ديني وثقافي واجتماعي وسياسي وأخلاقي , فلقد اصبح الرمز هنا رمزا للرفض والوقوف أمام الطغيان والظلم , لانّ هذا الرمز كان محفّزا للعواطف والمشاعر من أجل إستنهاض الأمة من غفوتها والوقوف بوجه الطغاة والسلطات الاستبدادية التي تعاقبت على الظلم والقهر وتشويه الحقائق والتاريخ وسرقة الخيرات وتشويه صورة الوطن . ومن هنا كانت القصيدة الحسينيّة قصيدة حيّة نابضة بالثورة واكتسبت بُعداً رؤيويا في مسيرة الأمة وتطلعات الشعوب المغلوبة على امرها وبثّ روح التطلع نحو الحرية والكرامة .

 لقد بعث لنا الشاعر هنا رسالة عن البعد العالمي الانساني لثورة الحسين وترجمت المشاعر الانسانية لانّ القضية قضية حيّة ومستمرة , لانّ مثل هذه القصائد دائما تدغدغ المشاعر وتهيّجها لما لواقعة الطفّ من وقع في النفوس لانّها تخرج من الأكباد المحترقة والمـتألمة لما حلّ ببيت أهل النبوة .

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!