قراءة في كتاب حديث الصمت للكاتبة كفاية عوجان / بقلم : الأديب والناقد :الدكتور حسين البطوش
لقد جاء هذا الكتاب يعبر عن خطاباتٍ وجدانية لعواطف ذاتية لصاحبته التي لامست أحاسيسنا بالقدر الذي يندمج فيه الذوق والمقايسةَ لمثل هذه الخطابات التي حظيت بملكة تصويرية جميلة تجلّت بترجمة دالة بما أؤتي لها من عناصر شعرية تماهت بقصيدة النثر والشعر الحر والخاطرة والرسالة الوجدانية لتقترب أكثر لمثل هذه الخطابات التي تعنونت بـ (حديث الصمت) عتبةً نصية ويكأن الكاتبة ترفض دلالتها بقولها:
(ليتني ليتني لم أكتبْ يوما ولم أعشق القلم…! ليتني لم أكتبْ صفحاتٍ من عمري على جدران الدار…! ليتني لم أعشق الكلمة…! ولم أتذوقِ الأفكار…!(
لقد حظي العنوان بأهمية استراتيجية بالغة في الدراسات النقدية الحديثة لما له من تأثير كبير في البناء الفني والشعري من خلال العلاقة الثرية المتنوعة في سبلها واتجاهات لطبقات المتن النصّي لوظيفته الدلالية والتشكيلية والصورية وفق صياغة أنموذجية لفلسفة هذه البنى المنوطة برؤية المبدع؛ فهو آلية التعيين والتحديد والتصوير وهو المفتاح الإجرائي ببعديه الدلالي والرمزي لاستقبال الخطابات النصية بأقصى كفاءاتها داخل المسار الذهني للمتلقي الساعي الى نتيجة مقروئية تنطوي على اجتهادات المبدع وإيحاءاته التقابلية أو الانزياحية، أو الائتلافية التظافرية التوليدية التي تستجيب للإرادة النصية في صياغة فضاء معين يرسم ا من خلاله سياسة الخطاب الإبداعي للنص. لهذا احتل العنوان بونا واسعا من الغلاف كعتبة نصية ثانية تحكي لوحة تجريدية تعرض الكاتبة من خلالها العنوان وفق دلالات سميولوجية تحكي قصة بدأت : (في ذلك المكان … وفي ذاك الزمان الذي دفعتني صروفه للعمل … كانت البداية … بداية إبحاري بقارب من ورق … والمجداف قلم مداده بحر لجي … لا نهاية له من الكلمات والأفكار ) … بمؤدى تنوّع خطاباتها التي تميط لثام الصمت بهذا الحديث الشائق الموجَه صوب رفيق تجسّد بحكاية الروح:
(وأَنتَ حكايةُ الروح. يا رفيق الرّوح أُهديكَ كلماتي…هي ليست خيالاً أوذاكرة جروح بل وَحْيَ روحِك؛ نُقِشت في ذاتي فكنت الماضي والأتي(
بفيض كاتبة حالمة تترجم مواجدها وانفعالاتها من خلال هذه المحاولة الجادة التي تعكس لنا خصبها الفكري الثري على مستوى المضمون الذي تأطر بالتوجد الصادق لنفس مغتربة كما تصف: ( إحساس غريب، يجعلك فارغا من كل شيء …بارعةٌ أنا في الهروب بارعة في إقصاء نفسي إلى منافي الروح…أختارُها بنفسي… أختارُ عزلتي… بُعدي عن كل شيء… حتى عن نفسي.(
نعم إنها النفس الحاضرة بصمتها الغائبة بحديثها قائلة:
(ما كان لي يوماً حضورٌ.. في الحاشيةِ اسمي، لا بين السطور..
لا سطرَ لي، و لا مكان.. على زاوية الصفحةِ…
على هامشِ الحياةِ حرفٌ ينتظرُ الظهور على مسرحٍ الصفحات….(
نعم إنها متشظية بغيابها بصمتها المؤطر بالفكرة الخلاقة التي تحمل بين جنباتها رؤيً فريدة تشكّلت وفق تجربة تأليفية بأبعادها الوجدانية بضلال الرومنسية العبقة بالنرجسية ذات الكبرياء المتنامي بين قلبها وعقلها بتلاحم وشيج صورته دفقات شعورية مختزلة من الإيمان والقناعة من جهة، والحياء والعادةَ من جهة أخرى لواقع غير مستعذب تعيشه بل تكابده عندما تعترف قائلة:
(لم يكن ذلك العملُ يلبّي جزءاً ضئيلاً من طموحاتي أو أحلامي. لم يعطني بعضاً مما أستحقُّ… رغم ذلك كان أكثرَّ الأماكنِ التي منحتني بعضَ الخلوةِ… بعضَ الهدوءِ….البعدَ والارتقاءَ بأفكاري ) إنه الهروب لما يشي بإلحاح نفسها الحكيمة التي تطلبها التطهير على سبيل الخلاص من هذه الانفعالات وفق ما حصرها (أرسطو) في صدق المشاعر التي تأتي تعبيراً دالاً على الشقاء والحق أن أقدر الناس تعبيراً عن الشقاء من كان الشقاء في نفسه وهي القائلة:
(قَطرات طُهر كنتُ أشتكي من دمعتي التي تنزلُ دون سابقِ إنذار ..
حين أشتاقُ…حين أحزنُ…حين أنظرُ إلى صورة… أو عند رؤيةِ طفلٍ جريحٍ في نشرةِ أخبار. قطراتُ طهرٍ ليس لها تفسيرٌ أو تبرير
تنزلُ من غيمةٍ قاتمةٍ مثقلةٍ سخيةٍ… كنت أكرهُها… أكرهُ ضعفي فيها(
؛ لترتقي هنا كاتبتنا بمضمون بوحها عاليا عندما جاءت عاطفتها فيض حالة ذهنية نفسية، استدعت لترجمتها ألفاظا دالة موحية على سبيل التوظيف المناسب لمعنى الرسالة أو الخاطرة الذي استندت فيه على الانتزاع الصوري القائم على تداعي المعاني المتشابهة أو المتضادة في زمكانية محددة، ما يسوّغ لنا رأي (أرسطو) عندما حصر عوامل تداعي المعاني في التشابه والتضاد والاقتران الزمكاني، ما زاد لديها من تضاعيف قيمة هذا الحديث المؤثر في ذواتنا هذا الحديث الممتلئ المتخم بضجيج موضوعاته بالرغم من هدوء التعبير ( حديث الصمت) وسكينته وفق هذا التباين الكبير في السلم الموسيقي الذي يعكس قلق ذاتها على مستوى الفونيم الواحد والمقطع وبالتالي الإيقاع العام بمستوييه الداخلي والخارجي للنصوص التي تباينت عناوين موضوعاتها فمنها ما يشي بالهدوء والسكينة ومنها ما يشي بالغضب والثورة ومنها العتاب لحد الفيضان أو البركان كما تصف:
(مختلفةٌ كشجرة تموت عشقاً بالأرض… و لا تنحني لها. تسمو فوق الجراحِ و الأشواقِ و الأحزان… لا يبدو عليها خيبةٌ، و لا شحوبٌ.)
وفق زاوية تبئير داخلية أو تشاركية… وبلسان الراوي المتكلم/ الداخلي وهي الكاتبة أو الراوي المشارك كما نقرأ نحن وقد يكون الأخر وهو الشخصية المحورية والمركزية لعله الأب أو الحبيب أو الابن أو الزوج إلخ:
وما دلالة هذا إلا لعلاقة مشتركة تجمع الكاتبة بمجتمعها، لا بأحادية الاعتماد كما يرى (ماركورورفسكي) وإنما هي علاقة تبادلية جاءت بهذا الضجيج من أروقة أروسطية وسماءات إفلاطونية عندما تقول:
وأصداء الفرح ترقص في أرجائك… يسلب منك إرادتَك بكل رفق وعذوبة… ولم يعد بيدك السيطرةُ على شيء … تتضارب الأفكار والكلمات في رأسك، فتُحدِثُ ذلك الضجيجَ في أعماقك…)
نعم لقد حصرت الكاتبة جلّ معانيها من معاجم عديدة أمكنتها من إيصال همّها بهذا الانفعال الذي لامست به قلوبنا قبل أسمعاعنا ويكأننا نعيش التجربة ذاتها بهذه النتيجة التي جاءت تخلِّصنا من ضغط العواطف وفق موروث ثقافي خاص ألفيته يناهض ابتكار المعاني ما يُحسب لها؛ إذا ما جعلت حديث صمتها خطابا مباشرا لعامة الناس، بيد أنه يُحسب عليها إذا ما نأت به عمداً عن الخاصة الذين تروقهم عمق المعاني وجزالة اللفظ وتعقيد التراكيب خلافاً للتسطيح القائم على التقريرية والمباشرة؛ لإيمانهم بما لعمق المعنى من تأثي كبير يشركهم همّ المبدع وهي رسالة الأدب بوصفه موسوعة اجتماعية أداته اللغة فالأدب يمثّل الحياة والحياة في أوسع مقاييسها حقيقة اجتماعية واقعة تجسّدت في هذه الخطابات على مستوى الشكل الذي ألفيته يعجّ بعناصر البيان لصور فنية جميلة راوحت بين الابتكار والنمطية كما تصف في هذا المزيج التصويري بين الشعر والنثر:
)لكل حديث كان لي معه بقية كلُّ الأمور معلّقة…فليس هناك نتيجةٌ حتمية … لجأنا للمنطق قليلاً… تُهنا في عالمنا المجنونِ كثيراً… لم نترك شاردةً و لا واردة. خضنا كل الهموم و الأفراح.. و بُحتُ له بكل ما فِيَّ وباح…)
أما على صعيد الأسلوب الخطابي فقد اختارت له كاتبتنا المفردات الفصيحة على الأغلب بواقع إيحاءات دالة على نحو السلامة من التطرف والغرابة وفق تداعيات خاصة جعلت من صمتها حديثاً توشّى بسلاسة اللفظ وسهولة التعبير بمفردات طيّعة ومأهولة للعامة والخاصة كقولها: (ستبقون في غيابكم حاضرين… تعودْنا على الغياب. تعودنا على الفراق…. فراقُ أحبةٍ ابعدتهم المسافات والسنين…) وهذا ما يمكّن المتلقي من معانيها بسولة ويسر بل ومشاركتها مظاهر حالاتها ودلالاتها من سعادة أو حزن أو عتاب أو تفاؤل أو تحسر …ألخ؛ ولا يعني هذا مجانبة المفردات الجزلة القوية ذات المعاني العميقة التي تجتمع في تركيب خاص، يأتي بفصاحة القول مع البلاغة القائمة على مناهضة الأسلوب السهل الذي يرتقي عن ألفاظ العامة، لما يعرف بالسهل الممتنع الموائم للتركيب الفني والموضوعي لمثل هذه الخطابات الجميلة التي راوحت بين إيقاعات خاصة توشّت كثيرا بالشعرية الخطابية التي تعدّ العلامة الفارقة بين النثر المحض والشعر وفق موهبة إبداعية مناسبة توافقت لها فونيمات المفردة الواحدة وفق نسق فطري خاص لديها – كما يبدو لي – تمثّل في الإيقاع اللفظي القائم على حركات الإعراب، والمد، السكون، والوقف ضمن المقطوعة الواحدة، والتجانس والتنافر والتكرار:
لم أخش يوماً بُعدَك… لم أطمعْ يوماً بودِّك. هي الأقدارُ نجتمعُنا بمقتضاها وتفرقُنا … ربما لم تقتربْ أو تبتعدْ(…
نعم إنها كاتبة تضع قدميها على الطريق وأمامها مستقبل مشرق بإذن الله لأقدم نصحي لها بأن تستعد جيداً للقادم، وأن تتأنى له من جهة الإخراج الفني ومن حيث المثابرة على قراءة النص الوجداني الأدبي لاسيما الشعري: قديمه وحديثة لتثرى لديها الصور الفنية إلى جانب المعاجم اللغوية أكثر من جهة أخرى؛ لأدعوها بأن تتصالح مع النثيرة ( قصيدة النثر)؛ فإني أراها إليها أقرب.
شارك هذا الموضhttps://web.facebook.com/afaqhorra/aboutوع:https://www.pinterest.com/?autologin=true