هاشم خليل عبدالغني – الأردن
القصيدة:-
دمُ الرّبيع في غزّة،
السادسةُ صباحا
دُون أن أغسل وجهي
أفتح التلفزيون
للصباح حُمرةُ الشّفق القادم من الشرق
اليومَ أيضا
تُشرق الشمسُ دما
في غزة
إذن
لغزّة النارُ والحصارُ والدمار
لغزة الجوعُ والعطش
فاِسعدوا بزيارة غزّة يا عرب
واِهنؤوا بالمواكب والقوافل
بالمهرجانات والأسفار
بالفنادق والرقص
بالفصاحة والشعر والجوائز
هنيئا لنا بالنفط والزيتون
هنيئا بالعمائم وبالمذاهب والملل
هنيئا بفتوى الرضاعة والمسيار
هنيئا باقتصاد السوق وسباق النوق
هنيئا بالشقاق و النفاق
هنيئا لنا بالثورات يا وطن
نفديك بالروح والدم
من أجل كرة القدم
صباح آخر من حصار
وموجة أخرى
من ألم
…………..
دم الربيع في غزة ….. للشاعر التونسي الكبير ” سوف عبيد ” من أروع واصدق مـا كتب عـن العـدوان الصهيوني المتكرر على غزة ، فقد اعتادت قوات الاحتلال الصهيوني مهاجمة غزة في فصل الربيع ، بالتزامن مع بـداية شهر رمضان المبارك، ولهـذا الـعـدوان صور متعددة ومظاهر متنوعة، ما بين احتلال للأراضي، وطعن في المقدسات وقصف وتـدمير وحـصار … غزة تعاني الموت والجــوع والحـصار.. ووحـشيـة الإنسـانـية الجــديــدة ، غـزة حــكاية صمـود وتـحـدٍ.
فـي فصـل الـربيع، تظـهر جـماليات الطبيعية ولـوحـاتها الخـلاّبة، والتي يكون لها وقع عــلى الكثيرين، وللربيع نكهة جـمالية خاصة، من زهور وألوان تبعث في النفس الراحة والنشاط والأمل …ولـكن للربيع فــي غــزة لون آخر ســائل احــمر ينزف مـن جــراح وأنات شـيوخهــا ونسـائها وشبابهـا ، ســائل يجـري فـي عـروق أزقتـهـا وسهولها وشواطئها ، في غزة لا حرمة للدم ، لا عصمة لأحد … في غزة نداء الدم !! أين يا عرب رابطة الدم ؟؟ هذه القصيدة بيان سياسي .. ثورة غضب وإدانة .
بأسلوبه السردي المتسلسل يفتتح الشاعر سوف عبيد قصيدته (دم الربيع في غزة ) بسرد يقــوم عـلى خط دقيق وتصور واضح ، وعـلى تدرج السرد الشعري ، فيسرد الـحدث الأول والثاني وهكذا .
ولأن للشاعــر اهتمام فــي متابعــة القـضايــا والأخــبار العربية والعالمية ،و متابعة كل جديد وتغيير وتطور في العالم .. لأن العالم وحدة واحدة متداخلة في بعضها ،فالعالم كما يقولون قرية صغيرة .
يقول الشاعر: أفقت صباحا كالعادة في الساعة السادسة دون أن اغسل وجهي وفتحت التلفاز ، هذا الصباح اِكْتَسَى الأفُقُ حُمْرَةً ، واصطبغ الشفق بلونٍ أحمر ، في إشارة من الشاعر تؤشر أن هذا الصباح يختلف عن غيره من صباحات .
يواصل الشاعر اليوم أيضاً …طلعت الشمس وأضاءت أرض غزة دماً ودموعاً وتنكيلاً ودماراً ، غـــارات متتالية متكامـلة ومتزامنة ..تستجلب إحداها الأخرى، لم يسبق لها مثيل ، دكت غزة في جميع إرجائها صباح غزي حافل بالعذاب والصمود والفرجة من العرب ….
دمُ الرّبيع في غزّة،
السادسةُ صباحا
دُون أن أغسل وجهي
أفتح التلفزيون
للصباح حُمرةُ الشّفق القادم من الشرق
اليومَ أيضا
تُشرق الشمسُ دما
في غزة
هكذا استقبلت غزة الربيع “إذن “..يستخدم الشاعر حرف(إذن ) حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ وَنَصْبٍ وَاسْتِقْبَالٍ ، لتهيئة المتلقي لأهمية مــا سيقوله الشاعـر ، فيصف حـال غــزة تحـت القصف ، (لغـزة الـنار المحرقة )، فهي بين نـاريين كلاهما شرّ ، نار الحـقــد الـصهيوني ونار الدسائس والتواطؤ العربي ، فـقـد أسهـم النظام العـربي فــي حصار غـزة وسد جـميع المنافــذ المـؤدية إليـها ، فاتسع المجــال المكاني للقتل والدمار .
من الطبيعي أن يكون لغزة الجوع والعطش ، الذي أنهك الأجساد وحـصد الأرواح ، ألـيست هــذه وحشية إنسانية فــاقت كــل تصـور وخيال ؟، ويطرح الشاعر معها ببساطة سؤالا ساذجا: هـل من يحكم هذا العالم أناس ؟ أم أننا أمام وحوش حقيقية لاحمة ومفترسة .
إذن
لغزّة النارُ والحصارُ والدمار
لغزة الجوعُ والعطش
يوجه الشاعر حديثه للعرب ساخرا منهم ، وسخريته مرآة صادقة للحقيقة والواقع، موجهاً سهام غصبه وسخريته نحو كل ما اصطبغ بصبغة الذل والهوان والتراخي ، عـن نـصرة الأخ المظلوم المـحتل المحاصر في غزة .
افرحوا وارتاحوا يا عرب بزيارتكم لغزة ( غزة الشاهد والشهيد ) واِهنؤوا بالشكلـيات والاستعراضات العــسكرية الـوهــمية واهنئوا بمسايرة الحكام .. فالجيوش المنذورة لحماية الوطن تخون الأمانة ، فدولكم فاشلة ، كل ما فيها وهمٌ على وهم .
ويواصل الشاعر فضح الواقع العربي المتردي ، الذي لا يهتم إلا لسفاسف الأمــور وصغائرها ,, فيقــول لتهنئوا وتبتهجوا بإقــامــة مهرجانات الجـــهل والخــيبة التي استوطــنت العقــول والقـلـــوب ، ولتنعموا بالسفر والتنقل في البلاد والمناطق السياحية ، والــرقص في قاعات الفنادق الفخمة .. ولتواصلوا خطبكم العصماء وأشعاركم الجزلة البليغة ، فالشاعر هنا يقول : نــريد أفعالا لا أقوالا ، لا نريـد توزيع جوائز ترضية للفاشلين والسحيجة اتباع الأنظمـــة ، ينطبـق علينا القول المشهور “ القول شامخ والفعل ركام ” ..(فالأفعال أبلغ من الأقوال ) نـريد أمـلا ً مقرونًا بالعمل (العمل أبلغ خطابٍ ) .
فاِسعدوا بزيارة غزّة يا عرب
واِهنؤوا بالمواكب والقوافل
بالمهرجانات والأسفار
بالفنادق والرقص
بالفصاحة والشعر والجوائز
في قالبٍ كوميدي ساخر.. يواصل الشاعر سخريته من واقعنا العربي ” المضحك والمبكي ” ساخرا مـن مواقف الحكام العرب السوداء مــن قضايا أمتنا المصيرية والمحــورية ، حكــاما بددوا ثروات الأمة المتعددة المتنوعة ، ولم يوظفــوها لخـدمة الإنسان العربي وقضاياه ،رغم أن الوطن العربي يتمتع بكل مقومات القوة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. ففي البلاد العربية ثروات طائلة وواقع مزر.
ويشير الشاعر إلى أن مصيبتنا ليست فــي حكامنا فحسب ، بل في المنافقين من دعاة السلاطين شيوخ الضلال ، الذين يمارسون التضليل والطمس والمذهبية لتطول أعمار الطغاة ، بصرفِ الناس عن الدين الحق الرافض للظلم وعبادة الطواغيت .. هؤلاء الشيوخ اقتصر دورهــم عــلى إثارة الاخـتلاف والانقسام والعــداوة وفتاوى إرضاع الكبير وزواج المسيار ،ومعاشرة الأزواج .. وجهاد النكاح متناسين قضـايا أمتنــا المفصلية والمصيرية ومقدساتنا المغتصبة ، متناسين حــصار غــزة وقصفها وتدميرها مــن الكيان المحتل ، (لم نسمع أيا من هؤلاء ذهب إلى غزة لقتال الكفار في فلسطين المحتلة , أو أصدر فتوى بوجوب تدفق المقاتلين و الأسلحة و الأموال إلى هناك!!! ). متناسين فساد الحكام ونهبهم للمال العام ، وارتمائهم في إحصان أعداء الأمة والعقيدة ” الصهاينة والأمريكان ” .
هنيئا لنا بالنفط والزيتون
هنيئا بالعمائم وبالمذاهب والملل
هنيئا بفتوى الرضاعة والمسيار
يواصل الشاعر فضح الواقع العربي البائس ، مخاطباً العرب : افرحوا باقتصاد السوق .. اقتصاد السلب والنهب ، اقتصاد الاحتكار حيث تتركز الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد ، اقتصاد المضاربات وقوة التحكم في التسعيرة والإنتاج . ..
وهنيئاً لكم الهاء الناس بمسائل تافهة لا أهمية لها كسباق النوق ( الهجن ) ، وتحــويل انتباه الرأي العام بعيدا عــن الحقيقة ، وألهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها ، ( أبقُـوا الـجمهور مشغـولا … مشغـولا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى ) .
مبارك لكم يــا عــرب اختــلافكم وانقسامكم وعــداواتكم لبعضكم البعض ، فأنتم أهــل الخــصومة والنزاع ، بــل أنتم أثبتم وبالتجربة أنكم أهل النفاق ” تُسٍرونَ الكفر وتظهرون الإيمان ” .
هنيئا باقتصاد السوق وسباق النوق
هنيئا بالشقاق و النفاق
وكأني بالشاعر يتساءل عما آلت إليه ثورات الربيع العربي !! مــاذا بقي منها ؟.. لقــد تحولت مــن الحراك السلمي إلى العمل المسلّح ( حروب أهلية ) ، لقد آلت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه عــلى كافة المستويات الاقتصادية والسياسيــة والثقافية والحياة الإعلامية والعامة ، تحولت إلى كابوس حقيقي، خيّم على شعوب المنطقة كلّها .
وبكل لوعة وحسرة يقول الشاعر: إن مراجلنا وبطولاتنا واستعدادنا لبذل النفس والتضحية ، لا تظهر إلا في صغائر الأمــور كمباريات كرة القدم ..
هنيئا لنا بالثورات يا وطن
نفديك بالروح والدم
من أجل كرة القدم
بعد أن استعرض الشاعر مــأزق الواقـــع العربي الراهن ،( أزمة حاكم ومحـكوم )، وبَيـّنَ أن أزمــة العرب تَكــمنُ فــي فشــل النظــام الرسمي العربي ، ومرد ذلك الفساد المستشري وسوء إدارة الحــكم ، وغــياب سيــادة الـقـــانون والعـــدالة .. وتبــعية الأنظـمة للغرب والأمريكان ، فلا عــجب أن تتجــدد الاعتداءات عــلى غزة ويستمر حصارها ،وتــظل غــزة تحــت الــنار مــوجة تتبعها موجــة ، تعاني الوجع الشديد والألم القاتل . .نار صهاينة اليهود وصهاينة العرب .
صباح آخر من حصار
وموجة أخرى
من ألم
ختاما .. إن هذا النص الشعري الثوري ، طلقات تنويرية سلطت الضوء عـــلى معاناة أهــلنا قي غزة ، تحـت الحــصار والقصف والدمار، غزة حكاية صمود وتحدٍ , كما فضح الواقع العربي الـــمتردي حكــاما ومحــكومين لتخليهم عـــن نصــرة إخوانهم في غزة ، وعرى شيوخ التضليل والضلال ونهجهم البأس ، وأشار إلى نهب وسرقة الثروات العربية وتوظيفها في اللهو والترف في مشاريع غير إنتاجية … رسالة الشاعر للأمة 🙁 أنى لحكام الهزيمة أن يقودوا قافلة النصر والتحرير ) .
لغة القصيدة مألوفة وواضحة وقوية ، وصور النص مؤثرة ، تتسم بالمجاز والتأمل إلى جانب التركيز ، كــما وفـق الشاعر ( في اختيار الكلمات وربــط بعــضها ببعــض، لأن بنيــة اللغة تؤلف جانبا مهما من جوانب القيمة الجمالية للقصيدة ) . قالت نازك الملائكة : ( اللغة كنز الشاعر وثروته ، وهي أيضا جنيته الملهمة ومصدر شاعريته ووحيه ) .