“قدمت هذه الدراسة في منتدى البيت العربي/عمان يوم الأربعاء الموافق 26/6/2019م”
بقلم: الشاعر والناقد عبدالرحيم جداية
سؤال:
1- أيهما أشد إيلاما الموت النفسي أم الجسدي؟.
إضاءات:
– يقول طارق سويدان: بإن القيم ما يحمله الفرد من مبادئ، أما الأخلاق فهي صفة مجتمعية.
– إن انحطاط الأخلاق والقيم هي أكبر مؤشرات للموت النفسي.
مسوغات:
- موت أبو مريم والشيخ عماد في طريق جبيل؟
بين القص والرواية
إن التجربة القصصية في مجموعة أغدا ألقاك عند عنان محروس، وضحت لنا تقنيات متعددة في القص والسرد والوصف، كما اشتغلت على الشخصيات إشتغالا مميزا في نصها القصصي، وهذا ما استفادت منه في تجربتها الروائية، فالقدرة الإنتقائية للشخوص والفضاءات التي يشغلونها، هي المحرك الأساسي في نضج تجربة عنان محروس الرواية في رواية “خُلق إنسانا”.
لكن التجربة الروائية غير التجربة القصصية، ويعد كثير من النقاد بإن القص طريقة طبيعية للنمو الروائي، رغم التعقيد في النص الروائي، إلا أن عنان استطاعت أن تشتغل على هذا التعقيد، والشخصيات المركبة والبسيطة والثانوية في نصها الروائي، مما دفع إلى مقارنة هذه الفضاءات، ما بين عالم القصة والرواية عند عنان محروس، هذه الفضاءات التي توسعت في مفهوم الروائي بفضاء أكبر يحتوي على عوالم وفراغات وحيزات وطرق متعددة لحركة الشخوص في هذا الفضاء، والحيز الذي يشغله شخوص الرواية لتشكل كتلة روائية بدلا من الكتل الصغيرة القصصية في مجموعتها أغدا ألقاك.
ولا تعني هذه المقارنة تفضيل جنس أدبي على آخر، بل التعرف إلى طبيعة هذه الأدوات واستخدامها في كل جنس عند عنان محروس، فكلما حلقت في عالم القص زادت تحليقا في عالم الرواية، ولا يعني أن الرواية الأولى كما يعتقد البعض أنها تمثل البدايات، فكثيرا من الروايات الأولى كان لها السبق والتفوق على العديد من روايات تالية، أو فلنقل بأن لكل رواية مضمونها الخاص وشكلها الخاص وفنياتها الأدبية في الإشتغال على العمل القصصي والروائي.
إن الإشتغال لفظ مقصود ليدلل على قدرة الروائية والقاصة عنان محروس في تطوير أدواتها والتعرف إلى مشروعها ودقة رصد معطياته، وتشكيل كتلة والإنتقال إلى التفاصيل الفنية في العمل الروائي التي تشكل من المضمون معنى إنسانيا كبيرا، فهل الرواية مجرد سرد أدبي جميل؟
إن كان هذا القصد من العمل الروائي والأدبي، نستطيع أن نكتفي بعمل واحد وقراءة واحدة للتمتع بجمال السرد الأدبي، لكن السرد عند الروائيين هو خادم أمين للفكرة التي يعمل الروائي على طرحها، وكلما التقت الفكرة مع طبقات المجتمع المختلفة، شكلت وعيا جمعيا أكبر، فكيف إذا استطاعت الرواية عند ترجمتها أن تنقل أحاسيس ومشاعر إنسانية يشترك فيها العالم بقضاياه المتشابهة بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب.
عنوان الرواية:
إن عنوان الرواية له تأثير خاص عند المتلقي الواعي القادر على تحليل التركيب النحوي للعنوان، ومعرفة العلاقات المنشودة، وقد يكون العنوان سطحيا في بعض الروايات، وفي بعضها الآخر يكون عميقا مدهشا، فالبنية السطحية للعنوان خُلق إنسانا هي بنية جاءت من أصل الجملة خلقها الله إنسانا، والجملة الفعلية تحيل الخلق لله، وتؤكد على إنسانية هذا المخلوق وما يترتب على هذا المخلوق من حقوق وواجبات.
لكن الجملة الفعلية المركبة من فعل وفاعل وحال، فحال الخلق أي كيف خلقه الله فنقول خلقه الله إنسانا، أي على هيئة بشر التي اكتسبت صفة الأنسنة، لكن الفن الروائي يتطلب إعادة تشكيل الجملة الفعلية، من جملة فعلية بسيطة التركيب إلى عميقة التركيب مبنية للمجهول، وجاء العنوان خُلق إنسانا، لنسأل متى نبني للمجهول، إن الكاتب يبني للمجهول إذا كان الفاعل معرفا، فالله لا يحتاج إلى تعريف وهو معرف بنفسه، لكن الضمير المتصل في خلقه يعطينا ضميرا منفصلا خُلق هو إنسانا، المبني للمجهول غير صيغة الضمير، ليصبح ضميرا منفصلا بمعنى هو، وهنا تبدأ الحركة الروائية في جس هذا الضمير ليكون نائبا للفاعل بدل أن يكون فاعلا بنفسه، لأن خُلق مبني للمجهول، فلماذا حاولت عنان محروس الفاعل إلى نائب فاعل والمعلوم إلى مبني للمجهول؟.
وعند البناء للمجهول على المتلقي أن يعرف حال الإنسانية قبل وخلال وبعد:
1- قبل:
كان المخلوق طفلا صغيرا لم يكتمل الوعي عنده ولا الإدراك، وعندما سأل سؤاله الأول ماذا تعمل أمي؟ بدأت ملامح مرحلة جديدة تتشكل في حياة المبني للمجهول ليتسع الوعي والإدراك محاولا معرفة العلاقات التي تجمعه بالأم والأب والأخ والأخوات، وفي هذه المرحلة حيث يقبع في قبو تحت الأرض، فهو مجهول ليس معلوم أو مبني للمجهول، وهذا البناء فكري وحسي إنساني تكون الأسئلة البريئة والقبول بالحال كما هو مسيطر على وعي الطفل، حتى نسأل سؤالا يبدأ الوعي متحركا في عقل هذا الطفل، أين تذهب أمي؟ هل أنا وأخوتي متشابهين؟ لماذا نحن مختلفون في لون العيون، كل هذه الأسئلة الواعية المدركة أو التي تبحث عن الوعي، هي أسئلة تنهي مرحلة القبول بالأشياء كما هي والبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة، حتى يخرج من عالم المجهول إلى المعلوم.
2- خلال:
قادته هذه الأسئلة إلى إجابات غيرت في مجرى حياته للأسوء، فصارت الأجوبة مثيرة للقلق، وصارت الذات تبحث عن نفسها بحال سؤاله هل أنتمي حقا لهذه العائلة، أم أن هذه الكتلة البشرية ليست عائلة، فهم مجموعة أفراد يقومون بأدوار تشكل صوريا نظاما أسريا، لكنه في الواقع عودة للعبودية والرق والإضطهاد، والعلاقات القصرية بين أفراد لا تجمعهم صلة الدم، فهي علاقة إقتصادية تقوم عليها بهية في توزيع الأدوار، لتكون الأخت مومسا، ويأتي دوره لكي يمارس دورا إقتصاديا في هذه المجموعة التي افترضها أسرة له، فكانت الشوارع مستقره ليبيع ما تعطيه بهية ويعود لها بالمال.
3- بعد:
يمثل “بعد” حالة وعي جديدة للجسد حين البلوغ، ودوره في الحياة ليتخذ قرارا بالتخلي عن هذه المجموعة والهروب منها، باحثا عن نفسه وعن تلك السيدة ذات العيون الخضراء، متخليا عن تلك الفكرة التي نشأ عليها بأن يكون عضوا في مجموعة لا يجمعها إلا إستغلال بهية لكل جهودهم، وتصبح الحاويات مأواه حتى يظهر في حياته عماد الذي تبناه ورباه وعلمه، ورغم ذلك بقي آدم مبنيا للمجهول، ولما كبر وعمل في دار النشر، وأحب مريم بقي مبنيا للمجهول وزاد من بنائه للمجهول إغتصاب الباشا له، ليتحرر من السلوكات الإنسانية إلى سلوكات وحشية عدوانية، فيعود آدم لدور الباشا مكررا جرائمه ومتلبسا شخصيته، لأن المجهول المظلم في عقل آدم كان أكبر من النور الذي بثه في فكره عماد، والتني بثته في قلبه مريم.
هل يستطيع القارئ أن يعيد آدم إلى جملته الفعلية، الضمير المنفصل والذي كان ذات يوم ضميرا متصلا، أم أن آدم سيبقى مبنيا للمجهول؟.
مغازي الرواية:
إن رواية “خُلق إنسانا” ذات مغازٍ وقيم وأشارات، ويشكل العنوان “خُلق إنسانا” مفتاحا للولوج الروائي في كوامن النص ، هذا العنوان الذي أخذ من متن النص الروائي للدلالة على إنسانية الإنسان، وقد جاءت هذه الدلالة لغوية، فلسفية، نفسية ذات معان عميقة، فاللفظ “خُلق” هو لفظ دال ببنائه للمجهول، هذا المجهول الذي يغلف أحداث الرواية صانعا المتعة والتشويق، محرضا العقل على التفكير بالمجهول، وما ينتج عنه من أحداث إنسانية، وقد جاء اللفظ الآخر “إنسانا” دالا على تلك الروح والنفس التي كرمها الله، حيث تفهم ضمن السياق بأنها حال لنسأل ما حال الإنسانية وما مدى ثباته، فالحال متغير بصفاته الجسدية، ونمائه، وفكره، وتحليق روحه، ودناءة النفس المكبلة في جسد صلصالي، حيث يقول إبن سينا في قصيدته العينية، بأن النفس قد هبطت إلى صلصال الجسد كرها على كره، ولو ألفته قليلا إلا أنها تعافه، وتغادره في النهاية إلى عالم الذر في المنظور الإسلامي، وعالم المُثل في نظرة أفلاطون إلى النفس والروح، فالحال متحولة من شكل إلى شكل، قليلا ما تستقر في مقام لتتابع النفس والروح الإنسانية تقلباتها.
وعندما ندقق النظر في العنوان “خُلق إنسانا” فلا بد لنا من البحث عن الفاعل، فلا نجده لأن المبني للمجهول يأخذ نائبا للفاعل، لنجد البحث عن هذا الفاعل ونائبه في “خُلق إنسانا”، وعندما نكمل إعراب الجملة نجد أن نائب الفاعل مستتر كإستتار النفس والروح في الجسد، فمن الذي خُلق إنسانا، ليأتي الجواب هو خُلق إنسانا، وهذا اللفظ هو ضمير منفصل لكنه مستتر في بناء جملة خُلق إنسانا، لنعيد تركيب الجملة “هو خُلق إنسانا” من هو الذي خُلق إنسانا، إذا أمعنا النظر في النص الروائي نجد أن محور النص هو آدم، هذا الأسم الرمز لآدم الأول الذي هبط من الجنة إلى الأرض الدنيا، وفيها واجه ما لم يكن في الحسبان، وكذلك آدم في رواية “خُلق إنسانا” هبط من عائلة ما، تعرف معنى العائلة وعلاقاتها، تعرف معنى الأبوة والأمومة والبنوة، ليهبط آدم في تسوية تحت الأرض مع عائلة لا روابط بينها، فلا يجمعها الدم، ولا يجمعها الروح، ولا تحل بها النفس الإنسانية التواقة إلى الخير، فقط هبط آدم من عائلة الخير التي يحلم بها، أما بعينين خضراوين لتكون الأم رمز العائلة الخيرة، التي هبط ليجد نفسه في فضاء ضيق، تمارس به بهية دور الأم الغاضبة الساخطة، تمثل دور القاضي والجلاد، بهية الحاكم المطلق لهذا الكون الصغير الذي هبط به آدم.
ولو سألنا ما خطيئة آدم حتى هبط ليكون فردا في عائلة بهية، لا نجد جوابا، فخطيئته قدره وهو صاحب النفس الزكية الطاهرة، التي لم تعي بعد لتسأل سؤال الوجود من أنا ومن أكون، وكيف تشكلت العائلة، لكن آدم حين وصل سن البلوغ رفض تلك الأرض التي تحكمها بهية، باحثا عن أرضين في عالم عماد الإنسان الطيب، الذي حاول أن يخلق منه إنسانا، لتتزن المعادلة وتتغير الأحوال بين عالم بهية وعماد، الذي ىضحى بكل شيء لأجل نجاح آدم، وإنقاذه من جحيم بهية، وجحيم الحاويات والشوارع، فهل نجح عماد في مهمته؟.
فالعنوان عتبة النص التي ندخل من خلالها إلى فضاء الرواية، بشخوصها، وأماكنها، وزمانها، مشكلة حركة الشخوص ذلك الفضاء، والعنوان ليس مجرد عتبة بل هو نص مواز، كما يقول البنيويون في دراساتهم، إضافة إلى الهوامش المتعلقة في بناء النص، لنسأل من جديد ما الذي يدخلنا إليه العنوان “خُلق إنسانا” والذي يشير إلى خلقه في الماضي على هيئة إنسانية، فهل بقيت الرسالة واستمرت من الماضي (ماضي آدم) وحاضره ومستقبله، أم الإنسانية مهددة بفعل الجهود الإقتصادية، التي تقدم المصلحة البرجوازية على مصلحة الفرد، ليحافظ كل منهما على إنسانيته، فهل الفقر عامل مدمر للإنسانية، وإن كان كذلك فهل البرجوازية عامل مدمر أيضا للإنسانية؟.
إن كان كذلك فالإنسانية مهددة حد الإنقراض، وهذا التهديد لا يأتي من خارج المجتمع الإنساني، بل يأتي من داخله، ومن مصالحه التي غطت على الضمير الإنساني، لينام قليلا أو ينتهي ويموت، وبموت الإنسانية يكون الكوكب آيلا إلى الدمار، هل هذا ما ذهبت إليه عنان محروس في روايتها “خُلق إنسانا“، ربما ذهبت إلى أكثر من ذلك، وهي إنتهاك المثل العليا، وتدمير القيم الإنسانية، التي تشكل من الكائن البشري إنسانا بملامحه الخارجية، وبواطنه الكامنة، ليجتمع الجسد مع الروح والنفس فتحيي الإنسانية، وهذا واجب أخلاقي يقوم به الروائي عندما يؤشر إلى ضعف القيم، وإنحلالها التي تهدد بخطر إنقراض الإنسانية على هذه الأرض، فالإنسان فاعل بالمادة،لكن المادة وحدها لا تكفي، إذ بحث الفلاسفة عن عالم المثل العليا، وبحثت الأديان في الغيبيات، ليكون الإيمان مطلقا غير مرتبط بالمادة، بعيدا عن تلك الفكرة التي تغلب العقل في كل مناحي الحياة.
فما قيمة العقل بعيدا عن العاطفة وما قيمة الجسد بعيدا عن الروح، وما قيمة الإنسانية بعيدا عن الأخلاق؟
إن هذه المؤشرات، التي يدفعنا عنوان الرواية إلى قراءة الملامح الأولية، المتوقعة في معالجة الخير والشر عند الإنسان، من خلال إعلاء القيم الإنسانية الحميدة، ومحاربة تلك التي تؤدي إلى فساد الإنسانية، بهذا الشرط يكتمل العمل الروائي عند عنان محروس.
مؤشرات الموت والحياة:
إن دراسة المؤشرات طريقة استقصائية لرد هذه المؤشرات إلى حقيقة ما، لكن السؤال القائم ما مدى قدرة المؤشرات على تشكيل الرؤية الذهنية والروائية، ليس فقط عند عنان محروس بل بالفن الروائي بشكل عام، لكن هذه الدراسة المختصة برواية “خُلق إنسانا”، والتي تحمل مؤشرات الموت، وتحمل أحيانا الموت للبحث عن أسبابه، وبين المؤشرات والأسباب، نجد حالات كثيرة تكتفي بمؤشر واحد، لتدل دلالة واضحة وتشخيصية للحالة من خلال هذا المؤشر.
ومن أمثلة ذلك في الطبيعة عندما بستيقظ أحدهم من النوم، ويرى الضوء الذي يؤشر إلى النهار، والنهار بنفسه مؤشر إلى طلوع الشمس، في هذه الحالة فإن مؤشرا واحدا يكفي للإجابة على السؤال المفترض، ومن هذه الحالات عندما نجد مؤشر الحرارة في الماء على لاسخان قد وصل إلى 100 درجة مئوية، فهذا مؤشر كاف علميا وعقليا للبرهان والدليل على أن الماء قد وصل درجة الغليان.
لكن بعض المؤشرات لا تكفي لتكون دلالة، أو تشخص حالة فنية، ولا قادرة على إعطاء صورة ذهنية وروائية، ومثال ذلك ِإذا عبر أحدهم، ووجد بقايا نار مشتعلة في مكان، فهل يستطيع أن يحدد الهدف والغاية من هذه النار، لكنه وجد نفسه في منطقة مرتفعة وباردة، فهذا المؤشر الثاني يعطي دليلا أوليا أن جماعة هنا أشعلوا النار للتدفئة، لكن بقايا الشاي مؤشر ثالث إلى التدفئة وشرب الشاي، وربما مؤشر رابع عندما يكون بقايا طائر مشوي، مما يشكل صورة ذهنية عن هذه الجماعة أو الأفراد الذين أوقدوا النار، وبعض الحالات لا تكتفي بالمؤشرات لإعطاء الدليل، وإنما نجد الدليل نفسه، فيبحث المستقصي عن الأسباب والمؤشرات لما حدث، ومن أوضح هذه النماذج، نموذج الموت الذي نعرف نتيجته، ولا نعرف أسبابه إلا بمؤشرات التشريح الطبي، للتعرف إلى أسباب الموت، والأصعب من ذلك الموت النفسي الذي يعيشه الأفراد في المجتمعات المختلفة، وتعيشه الشخوص في رواية خلق ِإنسانا، للروائية عنان محروس، التي قدمت نماذج من الموت نعرفها ولا نعرف أسبابها مثل:
1- نموذج بهية:
نموذج معقد، تقوم بأفعال شيطانية لأجل المال، وتموت بهية في الرواية حسب أقوال سلمى لآدم، دون أن نعرف كيف ماتت، ولكن السؤال الأولى ما المؤشرات لوجود بهية في حياة عفنة، تعيش على بيع الجسد، وما الأسباب التي أدت ببهية إلى ذلك؟
قد تكون الحرب في لبنان وويلاتها هي المؤشر الأول، الذي يدلنا إلى سلوك بهية في حياتها مما أدى إلى موتها، لكن الحرب في لبنان شملت المجتمع اللبناني ولم نجد هذا الإنحراف النفسي إلا عند بهية، والقليل من المجتمع اللبناني، فهل الفقر كان سبب وراء ذلك، والمؤشر لحياتها الدونية، أم أن بهية تملك أسبابا نفسية مشينة جعلتها قادرة على ممارسة هذه الأفعال الفاضحة.
وربما يقول آخر لقد أغلقت الأيواب بوجهها ولم تجد إلا هذا الطريق، وقد تكون بهية قد استدرجت دون غيرها إلى هذا الطريق، كلها مؤشرات لكن المتعة النفسية التي مارست فيها البغاء تسحبنا إلى أدلة أخرى، وتؤكد على ميلها النفسي لهذا النوع من كسب المال، وذلك بجلبها الأطفال وتحويلهم إلى متسولين وبائعات هوى، فهل بهية ضحية أم بهية حالة أرادت لنفسها هذا العيش، فالمؤشرات أميل ما تكون إلى رغبة بهية بالعيش بهذه الطريقة، وإلا لحاولت بعد جمع المال إلى البحث عن عمل شريف، ولا يعني سقوطها مرة إن كانت قد استدرجت أن تبقى على هذا الطريق.
وإن لم تنجح هذه المؤشرات على التشخيص فستبقى في حالة شك وحيرة، لعدم القدرة على الحكم، وهذا ما يفتح للقارئ أبوابا أخرى للتأويل بمؤشرات أخرى.
2- نموذج سلمى:
سلمى صنيعة بهية التي أخذت عنها وزادت، وفوق ذلك لتموت أكثر من موت، موتا نفسيا عندما استقبلت كل إشارات بهية لتبيع جسدها لعابر الطريق، والمؤشر الثاني موتها النفسي بإعتزازها بهذا الجمال والصبا والدلال، حتى تنال من الرجل مقابل ما تعطيه من هذا الجسد، والمؤشر الخطير في موت سلمى النفسي عندما عرضت جدسها لآدم الذي عرفها شقيقته واعتبرها من محارمه، وكان الأولى به أن يحافظ عليها روحا وجسدا لكن مؤشرات الموت النفسي عند سلمى أوصلها إلى خاتمة الموت الجسدي، موت تعرف به سر آدم، وما يؤشر هذا لسر لآدم، وهو في كنف عماد اشيخ العابد، الذي أنفق حياته من أجل آدم، فكان الموت الجسدي لسلمى هو أكبر المؤشرات لموت آدم النفسي.
3- نموذج آدم:
يعد نموذج آدم هو محور الموت النفسي في رواية “خلق إنسانا” حيث جاء العنوان مؤشرا لموت الإنسانية في محيط آدم وحياته طول أحداث الرواية.
فكل أشخاص الرواية ماتوا موتا واحدا، إلا آدم مات منذ ولادته ومنذ حوته بهية، واستمر موته عندما بقي سره عند سلمى والشيخ عماد ومريم، الذين تمنى لهم الموت حتى لا يدلوا على ماهيته، فجاء موت سلمى بمرض الإيدز، أما عماد وأبو مريم فقد ماتوا بحادث سيارة، وبقي من تلك المؤشرات مريم، لأن شخصية آدم لا تقرأ بمؤشر واحد بل تقرأ بمؤشرات على حسب كل فترة، فالفترة الأولى كانت بهية وسلمى مؤشرات العذاب لروحه ونفسه.
لكن الإغتصاب الذي تعرض له آدم، شكل تحولا خطيرا في حياته، وأشر بدقة إلى موته النفسي، فقبل الإغتصاب كان يمكن لجرحه أن يبرأ، أما بعد الإغتصاب فإن مؤشرات الموت كانت كثيرة، رغم احتضان عماد له وحب مريم له، إلا أنهما لم يكونا قادرين لإيقاظ الروح فيه، فقد ساعداه جسديا على الحياة، ولم بشكلا دورا نفسيا لحياته، بل استمر الموت مؤشرا في حياة آدم، فخلافه مع مريم مؤشر للموت، وأمنياته لموت عماد وسلمى مؤشر خطير على موته النفسي، ورغم محاولة آدم على عيش حياة معتدلة، إلا أن مؤشرات الموت النفسي بقيت تطارده، حتى مع حبيبته مريم، والموت الأكبر يوم تبعته مريم والسائق يصطاد له أحد الفتيان، ليفعل به الباشا آدم ما فعله به الباشا قبل سنوات، فهذه المؤشرات المتعددة تدل جميعا على موت آدم النفسي، الذي ربما فكر بالإنتحار، وربما فكر بقتل مريم، كما تمنى أن يموت عماد وأبو سلمى.
آدم قصة موت نفسي لم تعرف للحياة معنى، ومعظم مؤشرات الموت النفسي لآدم كشفت على لسان مريم، التي أعادت ترتيب تلك الفجوات في حكاية آدم، وتلك الإختلالات النفسية بإبتعاده عن زوجته، وموت مريم لإقترابها من الدكتور مراد وممارسة الفاحشة معه.
ختاما:
“خلق إنسانا” هي رواية الموت، بكل تلك المؤشرات والدلالات، التي قدمتها عنان محروس في روايتها، وهذا الموت النفسي قد جاء من تدني أو انعدام بعض القيم والأخلاق عند شخوص الرواية، ومن مؤشرات موت آدم النفسية تعلقه بالسيدة ذات العيون الخضراء، التي تمنى ان تكون أمه ولم تتحقق الأمنية.
وفي الختام:
هل تصنف رواية خلق إنسانا رواية اجتماعية أم نفسية؟