عقد الخلائقُ في الإله عقائدا
وأنا اعتقدتُ جميع ما اعتقدوه
(محيي الدّين ابن عربي)
في هذا القول لابن عربي يتجلّى جوهر العلاقة مع الله وترتسم ملامح الإنسانيّة الرّفيعة الّتي بلغت رتبة الإيمان الكامل. فالإيمان تدرّج اختباريّ وانتقال من الفكر الدّينيّ إلى الفكر الإيمانيّ. أي من الفكر المنغلق في دين محدّد إلى الفكر الّذي يحاكي العلاقة مع الله أو بمعنى أصح لا يعد الإنسان يرى إلّا الله، الله فقط. وتتّسع هذه الرّؤية كلّما ضاق الفكر التديّنيّ، لأنّ هذه الحالة هي حالة ارتقاء فوق الحرف، والنّصّ، والتّصوّر. إنّها المرحلة الّتي يكتمل فيها الوعي الإيمانيّ فيعي جوهر الدّين وقوّة الإيمان. فيرى الجمال الإلهيّ في كلّ ذرّة من هذا الكون ويراه فيه بالدّرجة الأولى. والانتقال من الفكر التّديّنيّ إلى الفكر الإيمانيّ لا يعني بالضّرورة التّخلّي عن الدّين أو الخروج عنه، وإنّما هو تخطٍّ للنّمط الدّينيّ وميكانيسم التّفكير الدّينيّ الّذي يرى الإنسان في إطار ضيّق ومحدود ولا يتطلّع إلى البعد الإلهيّ في الإنسان. إنّها الحالة المتجرّدة المتماهية مع النّفخة الإلهيّة في الإنسان، وارتقاء فوق مادّيّة الدّين وعنصريّة الفكر الدّينيّ وتشدّده في ادّعاء امتلاك الحقيقة.
كما أنّ هذه المرحلة الإيمانيّة الّتي بلغت ما بلغته من الوعيّ والإدراك وانفتاح على النّور الإلهيّ والمحبّة الإلهيّة تتخطّى مفهوم التّسامح أو ادّعائه بين المتديّنين. فالقول بالتّسامح بين الأديان فيه شيء من التّعالي، وربّما التّكبر وكأنّي بالمتديّن يحسن إلى المختلف معه عقائديّاً أو يمنّ عليه بالتّسامح. الوعي الإيمانيّ والوعي والإحساس اليقين بالحضور الإلهيّ وغمر الحبّ المتدفّق في الأعماق الإنسانيّة وفي الكون وفي الوجود يحيي في الإنسان إنسانيّته المتفاعلة مع الخليقة كلّها.
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلبي قابلاً كلَ صُورةٍ
فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ
وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توههتْ
ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني
(محيي الدين بن عربي، ترجمان الأشواق)
تتّضح لقارئ هذه الأبيات عمق الفكر الإيمانيّ، كما يتبيّن الانتقال من الفكر المنغمس بقشور الدّين إلى الفكر الإيمانيّ المنغمس بالعشق. ولئن انغمس بالعشق اتّسعت دائرة الإيمان وتفتّح العمق الإنسانيّ المشار إليه بالقلب (لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ). فالقبول القلبيّ دلالة على انصهار القلب الإنسانيّ بالقلب الإلهيّ ودلالة على عقل تمنطق بالفكر الإلهيّ. ويمسي الحبّ هو الدّين والإيمان، ما يعني التئام الدّين بالإيمان. وذاك هو الجوهر الحقيقيّ للدّين. هذه الحالة الإيمانيّة السّامية تجرّد الإنسان من الشّعور بالحبّ أو الكره، من قرار القبول أو الرّفض للآخر. إنّها حالة الحبّ وحسب؛ وكأنّي بالعمق الإنسانيّ يصبح شبيهاً بمياه البحار، لا ثغرات فيها بل نسيج واحد. ولا تناقضات عاطفيّة بل إرادة عشقيّة، ولا صراعات داخليّة باحثة عن الحقيقة بل تجلّ إلهيّ يتوهّج في الفكر الإنسانيّ، ولا صلوات لله الفكرة، بل مناجاة لله الشّخص. ولا حاجة بعد للبحث عن حقيقة وهي النّور المتدفّق بتجدّد لا نهائيّ والفيض الّذي لا ينقطع واليقين الّذي ينمّي الإحساس بالله. الإيمان الكامل هو لحظة الإحساس بالحضور الإلهيّ، ويقول فيه القدّيس يوحنّا في رسالته الأولى: “ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبّة الّتي لله فينا. الله محبّة، ومن يثبت في المحبّة، يثبت في الله والله فيه.” الإيمان الكامل هو الثّبات في الحبّ الإلهيّ، حيث تجتمع المعرفة باليقين (عرفنا وصدّقنا) فيتجاوز الإنسان التّسميات والدّلالات اللّفظيّة والمعاني الظّاهريّة واللّغة الجامدة. فالمحبوب هو في الحقيقة الحبّ عينه بغضّ النّظر عن كلّ التّسميات لهذا الكائن الأعلى المتسامي الّذي ستهيم به الأنظار يوماً عندما تسقط جميع الأديان، فينجذب النّظر إليه وحده، الـ “هو الّذي هو”.
“ألا فتّشوا مذاهبكم بإخلاص، فتِّشوها بلهفة العاشق، فتّشوها بطهارة الطّفل، وحرقة التّائه، وإيمان المحتضر، تجدوا فيها السّلامَ الّذي إليه تطمحون، والطّمأنينةَ الّتي بها تحلمون، والحريةَ الّتي باسمها تترنَّمون. (ميخائيل نعيمة)