في حوالي السابعة والنصف أو أكثر بقليل وصلنا القاهرة ، يا إلهي الشوارع تزدحم بالمارة والمركبات ، الأنوار تسطع في قاهرة المعز ، أردد في نفسي من أين جاء كل هؤلاء؟ أي مدينة تتسع لهم ؟
إن كان المشاة بهذه الكثرة ووسائط النقل بهذا الكم، إذاً بالتأكيد البيوت خالية من ساكنيها.
كل القاهرة أو كل مصر الآن في الشارع، كنت أشعر بالسيارة عندما وصلنا إلى القاهرة تسير بتثاقل عجوز هرم، فهي لا تكاد تتحرك.
لفت انتباهي أثناء سيرنا سوق كبير بالقرب من ميدان التحرير يدعوك للدخول، لا بل يجبرك على أن تدخله ، إنارته الملونة تغريك بالولوج إليه، طلبت من أبي سليمان التوقف لنتجول في ذلك السوق ، ثارت دهشتي واستيقظت بداخلي الأسئلة ، أهذا سوق أم تجمع سكاني ؟ أم إنه معرض للجمال والفتنة المصرية ؟ أعتقد بأن جميلات مصر كلهن هنا الآن،آآآه ما أسعدني ، ولكن أنا متعب جداً، فكيف سنجتاز هذا الزحام ، كيف سنجتاز هذه الجموع البشرية ؟ وكنت أتوقع بأن هذا العالم ينتظرون الدور لإنجاز مهامهم ، سرنا داخل السوق حتى وصلنا محل طرز بعبارة الركن الهادي للزهور ، قابلنا بكل الترحاب طلبت منه أن يجهز لي باقة من الورد ، وما هي إلا دقائق حتى كان ما طلبت جاهزاً، خرجنا بعد أن ابتعت شيء من الحلويات وبعض الهدايا العينية ، خرجنا من السوق وأنا أتصبب عرقا وكنت أظن أني نسيت عيوني بداخله، زدت تعباً على تعبي من جراء الدخول لمركز التسوق الذي نسيت اسمه .
عاودنا انطلاقنا .. الزحام يزداد ، وحركة السيارات ترهق الشارع ، المسافة من القاهرة إلى مقر إقامته استغرقت ما يقارب الساعة من الزمن .
وصلنا إلى بيته ، دخل أمامي وهو يردد أهلا وسهلا ، تفضل أبا صخر ، جلسنا في صالة الاستقبال ، أتأملها ، هل هذا بيت محمد سليمان! إنه بيت برجوازي ، استأذن مني ، غاب قليلاً، وقال: أبو صخر تفضل الحمام جاهز ، ذبت خجلاً ولم أدر كيف أرد عليه، ولكني طاوعته ، دخلت الحمام ، خلعت ملابسي أشعر بأن الرخام ، المرآة ، الباب ، النافذة الصغيرة كلها أصبحت عيون ترمقني ، صوت أمي يخترقني إنها تعنفني، أفر من كل هذا وأدندن وأنا أغرق في الحوض والماء الدافئ يغطي هذا الجسد المتعب ، كنت أحسه يسحب خيوط النعاس من جفوني ويغرز في جسدي أشياء لم أعرف كنهها .
خرجت من الحمام واتجهت إلى الصالة ، أشعر بانتعاش غريب ، أين الإرهاق الذي كان يمتلكني ؟ أين ذهبت رغبتي بالنوم ؟ صوت مخملي يخترق سمعي ويستقر في القلب؛ أبو سليمان العشاء جاهز ، تفضل يا أبا صخر ، رافقته وجلسنا إلى المائدة ، أتذكر بيتي كيف كنت أجلس على الأرض وأمامي مائدتي ، الآن أنا أجلس على طاولة وأمامي الشوكة والسكين ، لن أحرج نفسي ولن أستعملها ، لن أقترب من الصنف الذي يحتاجها، جلست زوجته برفقتنا وراحت تسكب الطعام في الأطباق ، أنظر إلى صاحبة الوجه البهي والشعر الذهبي السابح فوق الأكتاف ، والعيون السوداء الجريئة ، أشعر بشيء من الخجل وأنا انظر إلى زوجته؛ لأنه ليس من اللائق ذلك ، أحاول غض طرفي ، ولكن ما أن يفوح عبير صوتها وأسمع دندنته حتى تفر عيوني إليها ، كان أبو سليمان يتحدث لزوجته عن الأردن وطيبة أهله وكرمهم !! أسخر من نفسي ، أي كرم وأي طيبة والذي تفعله أنت ماذا يسمى ؟
بعد العشاء أحضر العصير الطازج ،آآآه كم هو شهي، متأكد أنا من أن شدة حلاوته ولذة مذاقه هذه ما كانت لتكون لو أن أم سليمان لم تخلطه برضابها،بعد أن تناولت العصير شعرت بالحاجة الشديدة للنوم فاستأذنت منه بالنوم ،فقادني إلى الطابق العلوي ، أوصلني للغرفة التي خصصت لنومي ، كانت جاهزة( master) ، فأنا لا أحتاج للخروج منها حتى لقضاء الحاجة ، بدلت ملابسي ، أشعلت التلفاز وإذا بفريد الأطرش يصدح على الشاشة ” بساط الريح قوم يا جميل .. أنا مشتاق لوادي النيل ، أنا لفيت كتير ولقيت البعد علي يا مصر طويل ” هذا الفنان العربي السوري يتغنى بمصر ويتباهى بعشقها ، وأنا الآن ماذا سيكون مني، وأنا لا أملك صوته أو موهبته ؟