فراس حج محمد/ فلسطين
في نسيج روائي متشابك ومفتوح ومعقد يبني كميل أبو حنيش روايته “مريم/ مريام” على لسان إبراهيم/ أبرم “الحفيد” المعقد في تركيبته الثقافية وحتى البيولوجية، إذ اشتركت في تشكيله ثقافتان مختلفتان تنميان إلى “معسكرين متعاديين” كما يقول، لذلك لا يغيب عنه دائما سؤال “الهوية” وسؤال “الانتماء” وسؤال “الصراع” وسؤال “الحل” وأخيرا صراع “الحياة” والجدوى منها.
هذه الرواية معقدة ومربكة للقارئ العادي والمثقف والناقد، معقدة بالنسبة للطرح السياسي ومشكلة اللجوء وحلها. ومدى إمكانية هذا الحل، على الرغم من أن الرواية تنحاز أحيانا وعلى لسان “مريم” العربية إلى مقولة جمال عبد الناصر المشهورة لحل الصراع العربي الإسرائيلي: “ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة”. ولكن حلّ القوة أحيانا يجعل المسألة أيضا معقدة. انتصر “اليهود” على العرب وشكلوا دولة على أنقاض الشعب الفلسطيني الذي أصبح لاجئا في وطنه وفي غير وطنه. ماذا لو حدث العكس؟ ما مصير اليهود الذين جمعتهم الحركة الصهيونية في فلسطين؟ هل سيكون مصيرهم الرمي في البحر، ليشبع السمك الوارد في مقولة أحمد السعيد: “اتجوع يا سمك”؟ الحل ربما لن يكون إنسانيا على الرغم من مسألة الحق والعدالة ومن أحق بالأرض تاريخيا وثقافيا ودينيا، هذا التعقيد في الرؤيا وفي الحل تجسّد في مشكلة الرواية أو سؤالها الظاهر في ذلك الصراع المخفي بين المريمين: مريم ومريام، ومن الصادم روائيا وفنيا اكتشاف القارئ في الصفحات الأخيرة للرواية في الفصل (18) أن المريمين هما مريم واحدة وإن خضعت بعد ذلك إلى تاريخين مختلفين وثقافتين متباينتين، لكنهما تشيران إلى “هوية” واحدة متصالحة مع ذاتها، فـ “فلسطين كانت تسمى مريم أو مريام قبل أن تحمل أي اسم آخر”. (ص 256)
تأخذ مسألة “الهوية” في الرواية بعدا جمعيا تاريخيا ممتدا، متوغلا في التاريخ القديم، ليكتشف القارئ أن كل التاريخ بحمولاته الثقافية والدينية متحول زائل والثابت الوحيد هو الأرض التي أطلق عليها “أرض السماء”: “إن هذه البلاد كان اسمها مريم قبل أن تحمل أي اسم آخر، كنعان أو فلسطين أو إسرائيل”. (ص 103)، ما الرؤيا إذن لحل الصراع، أو ربما للتصالح مع الواقع؟ آلأرض أم التاريخ؟ إن صراع الجدتين الصامت هو صراع ثقافي ممتد له ارتدادات ثقافية وسياسية ودينية.
تبرز في الرواية أيضا مسألة الثنائيات المتصارعة للوهلة الأولى أو يُظن أنها متصارعة، ولكنها في الحقيقة تؤشر نحو تاريخ مزدوج من التفسير الثقافي لهذه الأرض التي تعاقبت عليها شعوب وقبائل، فقد عاش على أرضها “الكنعاني والأرامي والفلسطيني واليهودي والآشوري والفارسي والأموري والبابلي والفرعوني والأدومي والإغريقي والروماني والبيزنطي والعربي والتركي والإفرنجي”. (ص 103)، هذه هي الحقيقة التاريخية الساطعة، الأرض الثابتة والبشر كلهم بمعتقداتهم وتاريخهم زالوا وإن تركوا بصماتهم في المكان والزمان.
لا معنى إذن للازدواجية الثقافية في نفس أبرم/ إبراهيم ما دام أنه هو ابن هذه الأرض التي احتملت شعوبا كثيرة واستوعبت ثقافاتهم المتنوعة، لا معنى للازدواجية ولا معنى إذن لسؤال الهوية إذن، فلن نتحدث إذن عن صراع بين ثقافتين، بل هو عدم إدراك للحقيقة، فنحصر المسألة وكأنه صراع معسكرين متعاديين مختصرين في “عرب ويهود”، وهما شعبان سبقا أن عاشا في هذه الأرض قبل هذا الصراع السياسي الأيديولوجي الاستعماري المقيت. صراع يختصر هوية الأرض ويجعلها محصورة في ثنائية عدائية لا حل لها، حتى القوة ضمن هذا المنطق حل كارثي لا إنساني، هكذا تقول الرواية، وربما كان هذا هو خطابها المضمر الذي لم يصرح به السارد، وإن صرحت به بعض الشخصيات على شكل رؤى، وليس انحيازا يقينيا تتمحور حوله البنية الروائية.
في هذه القراءة لهذا المعنى الشامل للهوية كما تطرحه الرواية لا معنى له إذن، ولذلك سيكون بمقدار القارئ أن يرى في عقدة إبراهيم مجرد وهم لا أكثر لا يصمد أمام حقائق التاريخ الصادمة هذا التاريخ المجهول الذي لا يعرفه الكثيرون، عربا ويهودا، ومنهم إبراهيم نفسه الذي كان يتلقاه مصدوما مع أنه في لحظة ما كان على استعداد للتصالح معه، وخاصة بعد أن تعرف على صديقه عيسى المثقف العارف العابر لحدود الهوية المنغلقة على ذاتها.
تبقى الأرض وتذهب كل مشاكل التاريخ لتتصالب مرة أخرى في وعي الكتاب جميعا وخاصة أفكار الكتاب اليهود الذين لم يكفوا عن مساءلة حقائق مجتزأة من التاريخ لتنحصر الأرض بمفهوم واحد مستند إلى حقيقة واحدة، تقول إن اليهودي المقنّع والمقتنع بهذه الرؤية التاريخية الضيقة ما هو إلا ابن لثقافة سابقة لأيديولوجيا الصراع السياسي الحالي، فعنات ذات الاسم اليهودي في مألها المعاصر ما هي في الحقيقة إلا تجسيد لتاريخ موغل في القدم يقول إن الاسم يحيل إلى هذه الأرض وزمانها القديم قبل التأويل والتلوين الديني أو الثقافي، فعنات “اسم ليس يهوديا بالمطلق وإنما هي آلهة الحب والجمال عند الكنعانيين، وهي ابنة الإله “إيل” والإلهة “عشيرا”، وشقيقة الإله “بعل”، بحسب الأساطير الكنعانية” (ص 141). ولم يكن الاسم عنات هو وحده الكنعاني بل إن شلوميت اسم كنعاني أيضا، واسم إبراهيم أو أبرم أيضا سابق لوجود اليهود، فإبراهيم، عليه السلام، الذي يتخذه اليهود أبا لهم، لم يكن يهوديا، فوجوده سابق على وجود اليهودية.
لقد كانت الكنعانية هي الأصل والهوية الأصلية لهذه البلاد، وكل من جاء إليها كان يضيف إلى الهوية الأصلية شيئا من ثقافته حتى الإغريق اليونانيون لم يستطيعوا التغيير الكامل بل إنهم أضافوا للاسم الكنعاني ملحقات تؤشر على وجودهم، فإيليا الكنعاني هو إلياس، و”أدون” الكنعاني هو “أدونيس” اليوناني، وطرابلس ويونس وآلاف الأمثلة الأخرى. وتنبغي الإشارة إلى أن المشكلة ليست مشكلة لغوية أيضا، بل هي أعمق وأبعد من الثقافة ذاتها. إنها تبدو لي مسألة وجود تلوّن بألوان خارجية، وبقي الأصل ثابتا لم يزُل ولن يزول.
في ظل هذه الحقائق اللغوية التاريخية الثقافية سيبدو إذن “بنحاس” الصهيوني خارجا عن السياق ويمثل وجها قبيحا لمآلات المشروع الصهيوني الذي أقام بفعل التاريخ المعاصر لليهود الناتج عن محارق النازية والهلوكست معنى آخر للهوية الجمعية المستندة إلى تشويه الحقائق وليّ عنق المسيرة الإنسانية، فيظهر الوجه البشع للحركة الصهيونية التي هجرت الفلسطينيين، واستندت إلى تاريخ الضحايا لتبني تاريخا جديدا هشا، ولتصبح “جلادا” يستثمر من التاريخ بعضه بطريقة مغلوطة.
كل هذه التوليفة المعقدة، هل أوصلت القارئ إلى حلّ؟ ليس جديدا أن أقول إن الأدب لا يعطي حلولا جاهزة، ولكنه قادر على فتح باب السؤال والتساؤل، مع أن الرواية لم تخل من تقديم بعض الحلول المقترحة في النظر إلى مسألة التعايش مع هذه المكونات وفي أكثر من موقع في الرواية. هل يكمن الحل في التصالح والنظرة الإنسانية وبناء هوية قائمة على مبادئ إنسانية وأخلاقية والإيمان بالسلام والتعايش والعدالة وعودة الحق إلى أصحابه، ونبذ الفكر الصهيوني الإلغائي الذي يصر على وجود اليهود وحدهم، والباقي ما هم إلا أغيار وعبيد خلقهم الرب لخدمة أبناء شعب الله المختار، إن تسامحوا مع إبقائهم في الأرض، ولذلك تعلن الرواية خلاصتها في تفسير أبي سريع: “إن الانتماءات العرقية والدينية والقومية والطائفية ليست هي الأساس. إنها انتماءات متخيلة وزائفة، وتحجب الهوية الإنسانية المشتركة للبشر! أما الانتماء الإنساني فهو الانتماء الأرقى والأعمق والأكثر صدقا وانسجاما مع النفس البشرية التي لا تلوثها أوبئة الانتماءات الأخرى”. (ص 145). ولتوضيح هذه الرؤيا المهمة والضرورية للحل فإنه لا يعني بحال من الأحوال التعصب أو الاقتتال أو التمترس خلف قناعات زائفة، فكل تلك الانتماءات لا تلغيها الرؤيا الإنسانية للحل “بشرط ألا تكون هذه الانتماءات على حساب انتمائك الإنساني، وألا تنطوي على العنصرية القاتلة”. (ص 145)، هذه العنصرية التي تجسدت ليست في قتل الإنسان فقط أو تشريده بل اتجهت إلى ذكريات الآخرين كما فعل بنحاس عندما اقتلع التينة في صفورية، لأنها تمثل ذاكرة حية لمريم العربية، أو هوية ووجود لهذه الأرض العربية بمكوناتها الطبيعية والإنسانية. فرمزية الاقتلاع يحيل إلى سلوك فظ وعنيف ومعبأ بالحقد الذي يصر على الأحادية التي يكذبها تاريخ البشر الجمعي، وقد كان له دليل قوي في تاريخ هذه الأرض.
هل تنجح هذه الرؤيا التي قدمها كميل أبو حنيش في روايته “مريم/ مريام”؟ هذا سؤال الرواية الذي ظل معلقا لا إجابة عليه، وأظنه يحتاج إلى إرادة سياسية وقناعة من طرفي الصراع أولا، وهنا تبرز رمزية الزوجين شلوميت وإلياس اللذين شكلا حلا فرديا في الظاهر، ولكنه يحمل إيحاءات سياسية كبيرة متسقا مع ما قاله أبو سريع في المقتبس السابق، ولكنه حل لا مؤيدون له في المجتمع الإسرائيلي المتجه نحو العنف والمزيد من السيطرة وإلغاء الآخر، إلا عند فئة قليلة منهم. يساريون هامشيون منعزلون كما هو حال هذين الزوجين المنبوذين من العرب واليهود على حد سواء. مع أنهم نجحوا في إقامة علاقة ناجحة على مدى أربعين عاما دون مشاجرات ولا خلافات، ونأيا بنفسيهما عن هذا الصراع الذي كانا يفسرانه بالصراع العبثي.
لعل ما تطرحه الرواية من حل هو حل باد منذ زمن، منذ فشل مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية، هذا الحل الذي انحلّ وتلاشى وبقي قابعا في أدراج الفكر اليساري الإسرائيلي وفكر المعتدلين العرب، وقد تراجع من المشهد السياسي عند كلا الطرفين، وبالتالي فالنتيجة الحتمية هو استمرار الصراع ومزيد من القتل والعنف والعنف المضاد، لنشهد بين الفينة والفينة موجات عنف وارتدادات، وربما لن ينجح الزمن في حل هذه المعضلة السياسية، بوصفها أعقد المشاكل السياسية في القرن العشرين. ويبقى السؤال: ما هي أنسب طرق الحل، إنسانيا وفكريا وسياسيا، فهل من المعقول إن تبدلت الموازين وانتصر العرب أن يُرمى الإسرائيليون في البحر أو أن يجري عليهم هولوكست جديدة؟ لقد أدخلت الرواية قارئها المتسائل في دوامة من صراع فكري لن يجد لسؤاله إجابة منطقية تحقق العدالة والحق معا. ثمة معجزة يجب أن تحدث لوجود ذلك الحل السحري في ظل هذا التشابك المعقد جدا.
____________________
* صدرت الرواية مؤخرا عن دار الآداب البيروتية، وتقع في (263)، قدم لها الكاتب الفلسطيني المحامي حسن عبادي، وصدر للروائي كميل أبو حنيش قبل هذه الرواية ثلاث روايات أخرى، وله مجموعتان شعريتان مخطوطتان وكتابات أخرى نقدية. يخضع أبو حنيش في المعتقلات الإسرائيلية إثر اتهامه بممارسة العمل العسكري، ومحكوم عليه بتسع مؤبدات منذ عام 2003.