النص:
بأمّ عيني
………..
بأمِّ عيني
رأيت الطريق يقتفي أثري
ويُطاردني
بيدي أومأتُ له
أن ينسلّ
كشعرة من حلق التراب
وأن يُناولني عصاه
أهشُّ بها
على ظهر غربتي
عسى تتحرّك وتطوف
وتسعى
وتلقفُ
…………………..
أيتها البلاد البعيدة
مازلت أصنع
من ضفائر الليل الأغرّ
طوق نجاة
على مقاس قامتك المديدة
ومازال حلمي
في انهمار فجرك
يكبر ويكبر
…………………..
أحرق جثّتي أيها الهندي
فمقابر البلاد ضاقت
وما عاد في أرضنا
شبر تراب واحد
يحتمل أنين عظامنا
…………………..
كان الملح خبز أيامها
وفي يدها يكبر
رغيف المستضعفين
كريما كريما
…………………..
أنثر القشّ
من الصباح حتى المساء
لطيور بلا أعشاش
وأحلام واقفة
على أعمدة الشجر
………………….
في ظل الغياب
يُعرّش الفقد
ويعربد
يمدّ الشوق يده
إلى نوتة أصدقائي
يسألهم عن مدن الحنين
وخرائط اللّقاء
………………….
كلّما عانقتُ البلاد
من البحر
إلى النهر
ترجّلت الصحراء
بريح السموم
تصافحني
…………………
الجدار
الذي علّقت صورتك عليه
إنما هو قصيدة غير مكتملة
في عالم الدهشة
______________________________________
القراءة
عنوان لا يدعو للشكّ مجالا
…..فبأمّ عينها رأت شاعرتنا ما رأت
فقد شكل العنوان درجة تعبيرية عالية تحيلنا الى الفضاء النصّي الشّعري الذي تؤسسه رؤاها ليصير عتبة أولى و بؤرة أساسية تدعم ما سترويه …
تقول الشاعرة
أأمِّ عيني رأيت
الطريق يقتفي أثري
ويُطاردني
بيدي أومأتُ له
أن ينسلّ كشعرة من حلق التراب
وأن يُناولني عصاه أهشُّ بها
على ظهر غربتي
عسى تتحرّك
وتطوف
وتسعى وتلقفُ
ومنذ المصافحة الأولى لنصها تشدّنا دقة اختيار الأفعال (رايت…يقتفي…يطاردني…اومات له..ان ينسل ..ان يناولني …اهش …تتحرك …تطوف …تسعى..وتلقف) وهي أفعل حسّ حركية صنفها بياجي بالرّاقية التي ترتبط بالنّشاط النّفسي الذي يرتبط ضمن علاقة الفرد بمحيطه ضمن أطر افسح وأرحب …وقد أبانت في مدلولها عن رغبة التفاعل والإندماج والتوافق معه (أن يناولني عصاه) أهشّ بها ..إلخ….
وقد رأيت في المراوحة بين صيغة الفعل الماضي والمضارع بيانا على رأي سيبويه لما مضى وما لم يمض وماهو استدلال على وقوع الفعل في الحاضر وقد حققت غاياتها السياقية في تواشج بين صيغتها النحوية والتركيبية ودعمت جمالية النّص على مستوى البناء. النّص الذي صار كيانا حسيا قد من لغة تجسد الحس الباطني لدواخل النفس …والافعال هنا تبرز بصفة جلية في ارتباط وثيق أخرج دواخل النفس بصورة مدركة في فضاء النص..وقد أعرب الفعلين (تطوف…تسعى …)بصفة ملفتةعن قداسة رغبة في التّطهر من متاعب ما… ثمّ تتجلّى الذات الكاتبة لتجابه هذا الذي يزعجها ويتعبها …وبشكل معلن تخاطب البلاد بأيتها وهي أداة نداء تلفت اانتباه المخاطب العاقل أيتها البلاد البعيدة مازلت أصنع من ضفائر الليل الأغرّ طوق نجاة على مقاس قامتك المديدة ومازال حلمي في انهمار فجرك يكبر ويكبر ………… فالمقطع محكوم باستراتجية الخطاب الذي يوصل الى المخاطب أفق انتظارات…فتتماهى الأماني والإنتظارات وتلوح متقنة في مستوى جمالي لغة واسلوبا فبرغبة الإفصاح عمّا ينتابها من تمنّ تعبّر عن وجاهة مشروعها في هذا البلد تصنع من ضفائر الليل طوق نجاة فنمسك معها الخيط الذي يتجاذبه فنّ التنافر بين ضفائر ليل وحلكته مع صنع طوق نجاة وعلى مقاس قامة مديدة .وتتشابك المقاطع وتتلاحق عبر ضيق حادّ داخليّ فتتنامى لتبلغ أوجها فتدعو الهنديّ لحرق جثتها…
أحرق جثّتي
أيها الهندي
فمقابر البلاد ضاقت
وما عاد في أرضنا
شبر تراب واحد يحتمل
أنين عظامنا
وهي دعوة تنقل حكاية مشبعة بطقوس دينيّة فإحراق الجثة يطهر الروح، ويحررها من شكلها الأرضي، معلّلة طلبها بضيق المقابر وعجزها عن الإتّساع لأنين عظامها ..وهي صورة تعكس توتر الشاعرة واضطرابها أحرق جثّتي أيها الهندي فمقابر البلاد ضاقت وما عاد في أرضنا شبر تراب واحد يحتمل أنين عظامنا وعلى هذا النحو يتواصل النّص مستحكما في نسيجه عبر معجم لغويّ قويّ
أنثر القشّ
من الصباح حتى المساء
لطيور بلا أعشاش
وأحلام واقفة
على أعمدة الشجر
(أنثر القش لطيور بلا أعشاش…أحلام واقفة على أعمدة الشجر..) فالإستعارات هنا التي وظفتها الشاعرة لإفراغ وإخراج هذا الكامن فيها سرّب صورة صريحة مدركة حسيا ومضامين مخصوصة رأتها بأمّ عينها …
وبعد تحديد غياب المعنى في طيور بلا أعشاش وأحلام واقفة على أعمدة الشجر وللشجر اغصان لكنها صارت اعمدة مجردة من الخصوبة والإخضرار يجيئ تحديد الغياب برمّته حيث تتسم الحياة بالفقد ..وفي استرسال تعبيري متفوّق ترفده الصورة الشعرية والعبارة الدقيقة تقول الشاعرة (الشوق يمد يده…يسال اصدقائي عن مدن الحنين وخرائط اللقاء) لتضع المتلقي امام حالة شعورية تنسحب على مسار العلاقات والأجواء…..وتعكس حالة التّوتر في علاقة جدلية بين الداخل والخارج….. وتتنامى فساد الأمكنة وجدبها الى حدّ التساؤل الحارق الممّض كلّما عانقتُ البلاد من البحر إلى النهر ترجّلت الصحراء بريح السموم تصافحني فالصورة منفّرة عندما تصير التّضاريس نهرها وبحرها مختلفة عن حقيقتها الفيزيائية والجغرافية ….(عانقت البلاد…نهرها …بحرها …) فإذا المسار غير المسار …مفارقة عجيبة صاغتها الشاعرة باقتدار فحتى الأمكنه في هذا البلد تتغير …تتلون وفقا للحالة النفسية والمزاج المترع بالوجع والخيبة ….فتنعدم خرير المياه وجريان النهر وجمال البحر لتصير شيئا آخر سموم تلفح و…تصافح نكالة وشماتة وقد رأى بعض النقاد أن الامكنة في مجملها ضربان فضاء موضوعي ماديّ يمتدّ خارج الذّات البشرية وفضاء وجداني ينبسط داخله وفقا للحالة الشعورية وينتهي نصها الشعري بقفلة رائعة تحيلنا على الإقرار بأن الشعر هو حلمنا ومتعتنا ….فتخاطب البلد بقولها الجدار الذي علّقت صورتك عليه إنما هو قصيدة غير مكتملة في عالم الدهشة فالوطن قصيدة وعالم دهشة…يتكئ على أحلام ورؤى مؤجلة غير مكتملة…قد تجد طريقها يوما إليه…. أختم لأقول أنّ هذا النّص الشعريّ للشاعرة التونسية رشيدة المراسي حافل بالعمق والأناقة اللغوية ومهارة نسج الصورة الشعرية ….
وتبقى القراءة مساحة يتيحها أفق التّلقي والتفاعل الشخصي مع المنجز النّصي..عسى أن تكملها قراءات مغايرة ..