(أدب العزلة في زمن الكورونا)
*خاص بصحيفة آفاق حرة
لا أرى تشبيهًا أليَقُ بصديق لا مُبالٍ أبدًا بأخبار الكورونا إلّا بـ(دون كيشوت)، ويعتبر ذلك من الكذب الذي تريد وكالات الأنباء، متآمرة مع القنوات الفضائيّات لتسويقه، وبثّ الرّعب في نفوسنا. لا ألومه أبدًا فيما ذهب إليه؛ فيما بعد ذلك أصبح الأمر أخطر ممّا يفوق التصّور، وانتقل الموضوع من مجرّد فيروس ضرب بعض مناطق الصّين، إلى ظاهرة وبائيّة؛ ضربت العالم بين الشّرق والغرب بدوله الكُبرى والصّغرى بلا تفريق، الأمر الغريب وبعد أيّام أعادني الأمر إلى نظريّة المؤامرة في ذهن صديقي، الذي لا يمرّ عليه أيّ خبر أو قصّة إلّا من غربال المؤامرة الكونيّة علينا نحن العرب بالخُصوص.
وصلني على الواتساب العديد من مقاطع الفيديو، يشير مصمّموها فيها إلى مؤامرة غاز السّارين الذي ضربته أميركا في أفغانستان، وللجوار الجغرافي القريب من الصين حصل الضّرر لهم، وبعض التحليلات، ذهبت إلى أنّ الاستثمار الصيني في الوباء؛ فاشترت أسهم الشركات الاستثماريّة فيها بأسعار الفُجُل. حتّى ذهبوا أكثر من ذلك بتساؤلات، أين ذهب الإرهاب، الذي توقّفت آليّاته على وقع الكورونا.
صديقي، زاده الله بسطة في الجسم طولًا وعرضّا، ملامح رجولة نبطيّة نابضة بالحياة، سنوات العقود الخمسة والنصف، لم تزده إلّا إشراقًا في حياته، مُنعكسًا وضاءة قمر أبدر في منتصف كلّ شهر. يحيل أيّامنا بياضًا وصفاء روح ونفس.
عملي اليوميّ في الصّالون؛ يُملي عليّ مُتابعة المحطّات للتسلية في أغلب الوقت، ولإزاحة القلق والزهق من ساحات سجني في المحلّ طيلة النّهار. أحسدُ المساء.. ومن يُمضونه تأمّلًا واستنشاقًا لهواء نظيف يملؤون بهم صدورهم. وإذا كانا حبيبان.. تتلّهف نفسي إلى بداية زواجي قبل أربعة وثلاثين عامًا، أيدينا مُتشابكة تأبّطًا.. نغوص في هُيامنا بانسجام عميق في بحار الرومانسيّة، تأخذنا أفكارنا بعيدًا في متاهات لا عقلانيّة عن الحياة.
صديقي غير متابع إلّا الأخبار السياسيّة الموجعة للقلب المُتلفة للأعصاب، سجائره على مدار السّاعة بتواتر الأخبار المُتجدّدة، كنتُ أتمنّى أن أجد عنده أذّنًا صاغية لي، ولو لمرّة واحدة في السّنَة، هو في واد وأنا في آخر، تحذيراتي الجديّة له بالالتزام في بيته، ثارت ثائرته انفجارًا في وجهي، لم أكُن أتوقّعها:
-“وماذا تريد منّي، أن أحبس نفسي؛ لأموت اختناقًا، وليتوقّف قلبي قهرًا وكَمَدًا، يا رجل اتّق الله فيّ، فهمتُ عليك من المرّة الأولى، كلامك مُكرّر حفظتُ الكليشة والديباجة عن ظهر قلب، ولو أنّك معلّم مدرسة وأنا تلميذ عندك لحفظت درسك المُعاد كلّ يوم. لا أريد أن أقدّم امتحانًا عن الكورونا”.
صمتٌ الصدمة ترافق مع حرارة جوابه غير الُتوقّع. أفقدني القُدرة على الردّ عليه فورًا، خوفي على استمرار علاقتنا الممتدّة لسنوات، من السّهل أن أخسر صديقًا، لكن ليس أن أعثر على غيره. لم أتمالك نفسي، بِتَلْويم نفسي على حرصي الشّديد من أن يُصاب بسوء.
الموقف أعادني لذلك الرّجل البّائس الإسباني، الذي تمثّل حالة أبطال وفرسانًا مغامرين يصنعون المعجزات، بقتال التنانين والعمالقة، ويحضون بتقبيل أيادي الأميرات، فأطلق على نفسه (دون كيشوت)، وراح يجوب قُرى الأرياف على ظهر حصانه مع صديق له.
خياله الواسع صنع له العدوّ المُتوهّم في طواحين الهواء. النّاس لم ينتظروا حتّى تنتهي المهزلة، بل أدركوا مَكْمَن مُشكلته, اصطدموا بجنون العظمة المُتولّد لديه؛ فرسموا مخطّطهم لإعادته إلى سريره.
في ساعة من ساعات العّزلة بعدما فُرضت رسميًّا، الخبر الذي ما كنتُ أودّ سماعه: “نقل صديقي إلى المشفى”. فهل غباء (دون كيشوت) انتقلت عدواه إليه؟. وما فائدة إدراك (دون كيشوت) المُتأخّر بلا جدوى ما قام به؟. فات الأوان..!! موت صديقي على سريره.. ماثل بطل الطّواحين بمثل نهايته.
لم تُجد دموعي نفعًا، حزني عليه انضاف إلى قهري بموته وحيدًا، ولم أستطع إلقاء النظرة الأخيرة عليه. ولا واجب العزاء لأهله، إلّا عبر الواتساب.
عمّان – الأردنّ
10 \ 4 \ 2020