نص القصّة القصيرة جدا “مجرى الدم” للكاتب: محمد مدخلي: (“– وَقِّعْ المعاملة مقابل عشرة آلاف ريال.
– اُخرج فوراً قبل أن أطلب لك الأمن.
أستغفر الله العظيم، كررها بعصبية شديدة.
هدّأَه زميله في القسم:
ـ طالما طردته لن يعود ثانية.
– لم أنفعل من رشوتِه فَحَسْب.
– وممّ؟!
– خشيتُ أن يتمادى في الثمن”.).
____________________________
القراءة النقدية
عند مطالعتي لأول مرة هذا النص الجميل للقاص (محمد مدخلي) والذي عنونه بـ “مجرى الدم”، تساءلت في نفسي: ما ذاك الشيء الذي يجري مجرى الدم ونراه في هذا المشهد المختزل والمربك؟!
أهو الجشع والطمع؟!
كيف يكون ذلك في موقف أخلاقي على هذا النحو؟!
لعله حب المال والتملك وهو أمر فطري، ربما كان بالفعل يجري مجرى الدم، ولكن كيف يستقيم ذلك مع رفض العشرة آلاف ريال؟! أليست مالاً يستحق التنازل عن المبادئ لمن يحب المال ويقاتل من أجله؟!
إذاً روح النص وجماليته بالفعل في هذه العبارة المبهمة “مجرى الدم” والتي لن تصل لمعناها إلا بالتعمق في النص وفهم مغزى كاتبه من هذا الموقف المركب، ففي الوقت الذي كاد يستدعي الشرطة وقد تميز من الغيظ رافضاً الرشوة التي قدمت إليه، ظهر أن أكثر ما أغضبه خشية ألا ينتهي الموقف عند هذا الحد، ويبالغ الراشي في رشوته، وهنا تكمن المفارقة، وأظن فيها الإجابة على كل الأسئلة الماضية، فالرجل استطاع مقاومة شهوة المال عندما كان المبلغ عشرة آلاف ريال، ولكنه لا يعلم إن زاد عن ذلك كيف سيكون موقفه، فقد ينصاع لإغراءاته ويستجيب له، وكأن القاص يريد أن يخبرنا بأن درجة الممانعة تختلف من شخص لآخر، وهي النقطة الجوهرية التي تستحق الوقوف عندها، أو لعلها العتبة الأساسية التي ننطلق منها لفهم النص، فبعضهم ممن يسمون في مصطلحاتنا الدارجة “أصحاب الذمم الواسعة” يرضيهم مبلغ أقل من ذلك بكثير، بينما بعضهم يحتاج لإغراء أكبر، وبالتأكيد هناك من لا يمكن كسر شوكتهم أبداً.
ولكن مهلاً ربما أراد القاص إخبارنا أن المرة الأولى تحتاج لإيقاظ الشر الذي يجري في دمائنا ولن يكون ذلك إلا بإغراء كبير، وهو ما خشيه بطل قصتنا، وكان صادقاً مع نفسه وهو يبديه أمام صديقه، وتلك مزية أخرى ورسالة حملها هذا النص العميق فوقوفنا على نقاط ضعفنا يسهل علينا التغلب عليها وهو ما فعله عندما سارع في طرده وتخويفه قبل وصوله للمبلغ الذي قد يستميله.
في الواقع أن هذه القصة رغم قلة مفرداتها وبساطتها ومباشرتها الخادعة، تتميز بهذه الشخصية المركبة لبطلها، ما يجعلنا نتساءل أيضاً، أيكون الإنسان فاسداً وشريفاً في ذات التوقيت؟!
بالتأكيد يحدث أمر كهذا فنحن غالباً نقاوم الإغراءات البسيطة ولكننا نسقط عندما تكبر، لذلك نجد في قصة يوسف عليه السلام ما يظهر مثل هذا المعنى فللدلالة على قوة الاختبار، ذكر الله سبحانه وتعالى أن الظروف كانت مهيئة لارتكاب الفاحشة من الاختلاء وغلق الأبواب، وتقديم امرأة العزيز نفسها دون أن يطلبها، خلاف جمالها وفتنتها، وكأن القرآن بذلك يريد أن يلفتنا إلى أن المقاومة تختلف من شخص لآخر وكلما كانت الإغراءات كبيرة كلما كان الاختبار أصعب والأجر أكبر، ويؤكد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، حين ذكر أن منهم “وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللّهَ”
والشاهد هنا في هذا الحديث وصفه المرأة بالجمال والمال وفيه ما يدل على أن الإغراء الكبير قد يكسر الممانعة، والنجاح الحقيقي في موقف كهذا.
ومع أن الحديث مع هذه القصة المختزلة والمكثفة والجميلة، لا يمل إلا أنني سأختم ببيان أن ما قصده “المدخلي”، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله حين قال “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ”.
فليس غير ذلك والشيطان يجري من ابن آدم “مجرى الدم”.
*كاتب سعودي. /نقلا عن صحيفة فرقد الثقافية