كتبت : الأديبة والناقدة مادونا عسكر/ لبنان
– النّص:
أدنو وأنأى عن تضاريسِي القريبةِ والبعيدةِ
كيف لي دربٌ أسيرُ عليهِ
في هذا الزمانِ الرخوِ
تغويني الدروبُ الأُخرياتُ فلا أُبالي
أنزوي خلفي
وأبحثُ فيِّ عن دربٍ قليلِ الخطوِ
عن جهةٍ تحُاصرُني وتملأنُي
إذا صارت جهاتي الستْ
يملؤها الخُواء .
*********
أرنو وأُغمض مقلتي فلا أرى بحراً أمامي
كي أشُقَّ مياهَهُ بعصا هيامي
أرتقي هذا الصعودَ
أنامُ مُكتظاً بحلمٍ ظل يغشاني طويلاً
ثم أغرقُ مُشرِعاً أملي
لعلي أقتفي أثر النسورِ الطائراتِ بحبلها نحو السماء .
**********
أسمو وأهبط في كِياني
ليس لي أُفقٌ أطيرُ إليه
كي أمضي عن الإسمنتِ والأبواب
من حولي فأغفو ثُمَّ أحلمُ
أن هويتي تغولُ لِقِّمةً منثورةً بالياسمينِ
فلا أعودُ لصخرتي في الهاوياتِ
ولا أكِرُّ إلى الهبوطِ أو الصعودِ
وينتهي عهدُ الشقاء
*****
أطفو وأرسو في مياهي
ليس لي أرضٌ تُسَّمِرُني
فأرنو للسماءِ
فينجلي نجمٌ شحيحُ الضوءِ في أُفقي المحاصَرِ
يستثيرُ عزيمتي ويحُثُني
كي أستقيمَ مواصلاً
درب السباحة للأمام وللوراء .
*************
أغفو وأصحو
باحثاً عن سلمٍ للإرتقاءِ لعالمي
والإ
الانعتاقُ من الدوائرِ والدهاليز
التي تُرخي سدولَ ظلامِها
في مُقلَتيَّ
وأحتفي متلمّساً
أثرَ الدروبِ المُفضياتِ إلى البهاء
– القراءة:
في لحظات التّيه الإنساني تضيق أعماق النّفس حدّ الإطباق على أنفاس الإنسان حتّى وإن كانت الأماكن رحيبة. وفي لحظات التّيه تجتمع الأضداد لا لتشكّل حالة الصّيرورة، وإنّما لتعبّر عن تخبّط قاسٍ وحركة محدّدة بالمكان والزّمان والأعماق الإنسانيّة، فلا يعود يختلف الدّاخل عن الخارج، ولا الظّاهر عن الباطن. كذلك هي حالة الشّاعر الّتي تترجمها الأضداد دلالة على حركة مشلولة في فراغ ضيّق، إلّا أنّه فراغ يبعث على مواجهة الذّات:
أدنو وانأى عن تضاريسِي القريبةِ والبعيدةِ
كيف لي دربٌ أسيرُ عليهِ
في هذا الزمانِ الرخوِ
تدلّ هذه الافتتاحيّة على الأنا المسجونة في اللّاحركة حتّى وإن استخدم الشّاعر الفعلين المتضادّين (أدنو وأنأى) رابطاً إيّاهما بالتّضاريس القريبة والبعيدة. فهو لم يستخدمهما إلّا كحالة شعوريّة وقد غاب عنه الدّرب والسّبيل إلى الدّنوّ أو الابتعاد. فالفعلان لا يعبّران عن فعل إراديّ كما سائر الأفعال في النّصّ بل إنّ الأفعال في النّصّ شابهت المقاومة للواقع، لكنّها مقاومة تعارضها الحركة الجسديّة والنّفسيّة. يقاوم الشّاعر بالحالة الشّعوريّة المحاصرة بزمان يسيل دون قدرة على السّيطرة عليه. يقاوم بالأضداد الّتي تراوح مكانها في كيانه دون أن تخلق حركة انتقال (من إلى). فهو يدنو ويبتعد، يرنو ويغمض، يسمو ويهبط، يطفو ويرسو، يغفو ويصحو، في آن. والدّرب المفقود دليل على تيه قاحل في صحراء قاحلة، يرجو الخلاص الخارج عن الزّمان والمكان.
يبحث الشّاعر عن درب سابع أو جهة سابعة، إشارة إلى الخروج من نطاق الوجود ككلّ، إذا استدللنا على حالة النّقص في العدد (السّت) وحالة الكمال في العدد (سبعة). ولا ريب أنّ الشّاعر يرى في الجهة السّابعة امتلاء وحركة بسيطة (درب قليل الخطو) تمكّنه من الولوج في عمق أعماقه. فالشّاعر المتعب أو المحاصر أو الزّمن المتاح أو الآتي لا يسمح بخطوات كثيرة لبلوغ المبتغى. وكأنّي به لم يعد يملك إلّا ذلك المكان القصيّ في أناه حيث لا حركة ولا سمع ولا كلام ولا حسّ (أنزوي خلفي). هو المكان الكامن في داخل الأنا غير المعروفة بالنّسبة للشّاعر لذلك ينزوي خلف ذاته.
لعلّ تيه الشّاعر بلغ ما بلغ من حدّ عدم التّعرّف على ذاته أو على الأنا الحقيقيّة، وبالانزواء في ركن بعيد عنه/ عنها يستشف الجهة الّتي ستملؤه وتعيده إلى ذاته. إلّا أنّ هذه الجهة تحتاج إلى معجزة كما تصوّر لنا حالة العجز الّتي يصفها لنا الشّاعر في القسم الثّاني من القصيدة. (أرنو وأُغمض مقلتي فلا أرى بحراً أمامي/ كي أشُقَّ مياهَهُ بعصا هيامي). وتظهر الحاجة إلى المعجزة من خلال التّناص مع الآية القرآنيّة في سورة الشّعراء “فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ”، لكنّ موسى كان يرى البحر أمامه ويعتمد على الوحي الإلهيّ وعلى العصا كرمز للقدرة الإلهيّة. لكنّ الشّاعر يفتقد إلى هذه العناصر، فكيف سيكون الخلاص؟
أمل الشّاعر حلم يمتلكه ولا يملك سواه. ولحلم الشّاعر دلالة الحرّيّة المرجوّة، الحرّيّة من المكان والأنا والزّمان. يغرق فيه على أمل أن يتحرّر من الوجود (ثم أغرقُ مُشرِعاً أملي/ لعلي أقتفي أثر النسورِ الطائراتِ بحبلها نحو السماء) أو لعلّه يريد أن يتحرّر فينظر إلى الوجود من علٍ فيتحرّر من أضداده. وهو الّذي لا يملك أفقاً يطير إليه ولا أرضاً تسمّره يتخبّط في شقاء هذا الفراغ ويرنو إلى السّماء الرّحبة المحررة حيث ضوء شحيح يحوّل التّضاد من تخبّط إلى حركة انتقال من حالة إلى أخرى. من حالة النّوم إلى حالة الصّحو، من الأسر إلى الحرّيّة، من الفراغ إلى الامتلاء، من الموت إلى الحياة والحركة الدّيناميكيّة. وذاك الّضوء الشّحيح يعزّز قدرة الشّاعر على المقاومة ويثبّت عزيمته ويستخرج من عمقه بهاء الأنا الحيّة. أو لعلّه أسكت الصّوت الّذي يردّد في داخله عدم قدرته على المقاومة، وقاوم بالشّعر ليصمت الصّوت إلى حين، ويحتفي بالدّروب المفضيات إلى البهاء.