فشلت في أن أبتعد عن القهوة ، فشلت أيضا في التخلص من الأفكار التي تمزقني كل حينٍ، الكتابة ممارسة صعبة وقوية جدا ، هكذا أراها أنا .لقد فكرت البارحة في نشر رسالتكِ بعدما سألني بعض القراء عن اسمك ومن تكونين !
حينما أعود كل مساء إلى غرفتي وأسترخي على السرير لأنفض عني بعض التعب والحزن أتذكرك وأحس بك قريبة مني أكثر من أي وقت في اليوم كله، تكونين على صورة الأشياء التي جمعتنا .
سألتِني عن نص سليم بركات وهو يفشي سر صديقه محمود درويش في كونه يمتلك بنتا . إن ما فعله سليم بركات هو فقط محاولة لتجريد اسم محمود درويش من عرش الشعر المعاصر ومن رمزية “الأم” ، القضية الفلسطينية ، دون أن ينظر إلى صلاحيته في استعمال اسم ثقيل، اسم نحبه نحن ويحبه كل عاشق للشعر .كان على سليم بركات أن يهاجمه مباشرة وألا يستعمل السرير والمرأة المتزوجة والبنت، ولا تلك اللغة التي كانت تجسيدا لمعنى واحد وهو أنه بذاته استغرب من نصه ، من فكرته الواضحة المخبئة .
إن الخلاصة هي أن سليم بركات أشعل هذه النار فقط ليعود اسمه للواجهة ، و يعود محرك غوغل للبحث عنه ، حيث سيتساءل البعض عن هويته وماذا يكتب ، وسيذهب البعض الآخر للبحث عنه في كتبه وأشعاره . وهكذا سيربح بركات عودته مرة أخرى مادام أن محمود درويش في حياته الأبدية ؛ فليس هناك أحد سيكذبه خاصة وأنه لا يعرف البنت ولا أمها ، فقط أنه يعرف السر الذي لا زال بين (هل) يكون لدرويش ابنة من صلبه أم لا ، فرحيل محمود درويش كان نقطة قوة لبركات ليتحدث بلا خوف ، بلا قيود تمنعه . إن بركات يعيش فترة عصيبة دفعته إلى تلك اللغة وإلى ذلك الخبر (السر) الذي أعتبره “خبر خاطئ” ولن يغفر له درويش هذا كله .
أنا الآن لا أدافع عن درويش كما فعلتِ أنتِ في رسالتك ، ولكنني أنصفه لأن هذا الخبر حتى وإن كان صحيحا لن يغير شيئاً ، فمحمود درويش شاعر القضية الفلسطينية ورمزا ثقافيا عربيا وقامة شعرية ، إنه أيضا إنسان له الحق في الجلوس والوقوف ، له الحق في الحب والمضاجعة والسكر والحياة الأخرى ، لهذا نحن تربطنا به صلة الشعر و الأدب.
إن هذا الخبر لم ولن ينقص من حبي له بل على العكس .
إن درويش سيظل أيضا فريسة للنقاد الذين سيتخذونه جسرا للظهور والشهرة ، ستجدين أن هناك من سيكتب عنه فقط ليأخذ مكانه كناقد . لهذا أحب أن أنصحكِ على أن تتخلي عن قراءة كل ما يتعلق به من جهة النقاد الجدد لأنهم يريدونه حصانا للصعود فقط لا لشيء آخر ! لهذا اقرئي شعره ، اسمعي صوته الجميل ، وعيشي حياتك في حياته ، في المخيمات في البِروة ولبنان وباريس ، إنه شاعرنا المفضل .
لنهرب من بركات والشعر، هل تتذكرين مساء العاشرة في مارتيل ؟ مساء الدموع والفرح والهستيريا، إنه نهائي لشبونة ، مدريد في الدقائق الأخيرة منهزم بهدف وأنت ترتجفين خوفا من الخسارة ، ألم أعانقكِ حينها وقلت لك سيسجلون وسينتصرون إنهم المدريد ، إنهم ملوك أوربا ، إن مدريد عشق قديم ؛ قديم من زمن الطفولة المكسورة ، من زمن الراديو واللاألوان . كم بكيتُ في خسارته وفي انتصاراته ، في حبه وحب الكرة ! كنت أستمتع به لحد الجنون ، كان مدريد ولازال فريقا لا يتكرر مرتين ، إنه قوي وقوي حتى في انهزامه وفي ضعفه . لنعد إلى صرختك الجنونية وأنت تعانقينني وتقبلينني عشر مرات متتالية ، أخبرتك حينها أن الهزيمة انتصار والانتصار انتصار، لا فرق في تشجيع مدريد في ( الخسارة أو الفوز) لا فرق في حبه وفي حب أغنيته .
انتصرَ مدريد وزغردت أوربا له، وخرجنا سعداء من المقهى نضحك ونغني : ” هلا هلا مدريد ، هلا مدريد … ” ، إنها الليلة التي عشتها مرتين في نفس الوقت ، في مكانين مختلفين هناك في مدريد وهنا في مرتيل والرنكون، وبعدها تواصلت الانتصارات والأفراح . في وسع مدريد أن يستريح وأن يترك للآخرين وقتا للحياة والهدوء كي يشعروا بأنهم مرتاحين على الأقل . في حضور مدريد الكل يمرض وترتفع درجة حرارته وتصاب القلوب بالمرض إلى أن ينتهي مدريد من تمريضهم وقتلهم ، إنه يستفزهم دائما …
حبيبتي ، لا زال الحنين يأخذني إلى هذه الذكريات والأقدار التي صنعتنا و صنعنا تفاصيلها برغوة القهوة وصوت القصيدة والمطر . إنني أحسها كأنها البارحة أو قبل ساعات قليلة ، إن ذكرياتنا وأيامنا المشتركة تنخر ذاكرتي وجسدي كل ثانية ، إنني لم أُشف من حقيقة الغياب ولن أقلص النسيان الذي بداخلي . إنني أوسع الحياة بنفس مقدار ذكرياتنا وحنينها ، بمقدار الطرق التي مزقتها أحذيتنا وبمقدار الأغاني والرقصات المرتجلة . . .