بدايات الأحاديث غالبًا تكون عبارة عن سؤال واحد “كيف حالك” ؟
كما لو أن كل حرف من الكلمتين كيف وَ حالك بمثابة سكاكين تطعن في صدر مَن يوجه له السّؤال.
كيف حالي!
سألني أحد العابرين كَوسيلةٍ لِبداية حديثه.. تجاوزت وَ اكتفيت بِخيرٍ وَتعمدت عدم توجيه السّؤال له مرة أخرى (وَأنت!) لأنني أعرف معنى أن يُسأل الشخص عن حاله وَهو ليس بِخير أبدًا حق المعرفة فَيفرض عليه الكذب المحتم، فَإياكم وَسؤال كاتب عن حاله فلو كان بخير لما كَتب أبدًا..
وَلكنِّي أنا اليومَ أقف أمامكم و أريدُ وَلمرة واحدة أن أَصدق..
أنا لست بِخيرٍ أبدًا يا رفاق، آخر مرة شَهِد ثغري ابتسامة حقيقية عندما حصلت على هدية في عمري الذي لم يتجاوز الخمس سنوات وَساعة صراخ، مثل عجوز صغير هناك مغارات سوداء تقبع تحت عيناي من فرط التعب وَالسهر ذابلة كما لو أنها وردة لم يسقها أحد منذ مدة طويلة وَالعبرات المالحة زادت عطشها، في مُقلتايَ يكمن حزن وَ َتجشم عظيم وَهناك جيوش شامخة من الدّموع تقف على منصة الجفن ترفض الاستسلام وَعند اقتراب أي عدو خارجي من حزن يداهم فؤادي تهجم دفاعًا على وجنتاي ساحة المعركة المعتادة التي لا شأن لها بشيء..
وَأشعر أَحَدَهُم من خلفي يطعن في ظهري وَيُخرج الخنجر وَيعاود الطعنة مرة أُخرى وَكأنني تحولت قطة بِسبعة أرواح لا أموت بِسهولة، كل الأحداث تلف وَتدور ثم تعود إلى نقطة ألمي حتى ينزفها قلمي حبرًا، أغفو كل ليلة على أوجاع الأمس وَأتمنى أن لا استيقظ فَتغلبني نغزة في جوفي لِانهض باكية، أصرخ بكل ما أوتيت من ضحك فَيعتقد من حولي أن السعادة تغمرني، هم لا يعرفون أنني أصرخ ضحكًا وَلا يعلمون أن الضحكة العالية هي الوجه الآخر للِصراخ المكبوت داخلي، أريد فقط مرة واحدة أن أشرع بِألمي على الملأ صراخًا لا ضحكًا وَلا كتابة.. لا يدرون أنني أجد قوتي بين حروفي لِذلك أكتب وَأن الكتابة ليست إلا أكوام من الهزائم على هيئة حروف وَفواصل منقوطة .
مثل معدمٍ قبل تنفيذ الحكم له قال كلماته الأخيرة ثم وقف يَعد الثوانِ قبل أن يلقى مصيره وَرقبته معلقة في خشبة قديمة كانت وَلا تزال ذريعة لِأرواح بريئة كُثر صعدت قناديلًا نحو السماوات، أنا دائمًا في هذا الحال أشهق كل يوم شهقة الموت وأزفر زفرة الحياة من جديد في كل نص اكتبه لِيكون عبارة عن وصية موعد الموت القادم، كل تنهيدة كفيلة بِإخماد حريق وَلكن ليتها تتمكن من إخماد النار المتأججة في جوفي.
نحن مَن نكتب لا حظ لنا وَكأن الأقلام تقتبس حبرها من حظنا العثر وَهذا أيضًا ما جعلنا نكتب رغم أن القلم يرتجف في أيدينا كل مرة..لا تلوموه ! أنتم لا تعرفون معنى أن ترتجف روح المرء في سن مبكر جدًا، وَندون هزائمنا التي تكاد لا تُعد مِن فرطها لِأن لا خيار آخر أمامنا، إذ نبعثر مئة سطر عن الوحدة وَالألم والتعب وَبعدها يجبر خاطرنا رصف بعض الجُمل على بضعة أسطرٍ عن القوة وَالصمود، قلبي المتهالك المُهترئ كما لو أن عاصفة مدمرة محملة بِالكثير من الأوجاع اصطدمت به وَهو عارٍ حتى الأضلاع لا تكفي لِتحميه وَلم تكن يومًا إلا قضبان سجن حديدية تتظاهر أنها درع، بِاختصار شديد إن حروف الشغف تتساقط مِن على سطر الأمل حرفًا تلو حرف وَتجعلنا نتعثر بِانفسنا أكثر مِن ما نحن عليه وَالمقاومة بدأت تؤول إلى النفاذ لِنرفع رايةَ الاستسلام لِكل حزن ينهش جسدنا النحيل وَنعلن الهدنة الأدبية للِقلمِ .