غرفة ضيّقة ، ذات أثاث مبعثر بال ، محتوياتها مغبرة داكنة ، سرير حديدي صغير يقبع في الركن يشبه أسرة السجون ، أغطيتها مبقّعـة بالحبر والأدران ، مخدّته مهترئة تبدو أحشاؤها من غلافها كأمعاء كبش مطعون . الكتب مترامية على الرفوف ، عديمة النظام مبعثرة ، نور الكهرباء شاحب كالغروب يجعل من أثاث الغرفة أشباحا وهامات مرسلة ، تجعل منه رجلا كهفيا . أماّ شعره فمخرّص أشعث يدير خصلاته بسبّابته في حركة رتيبة آلية . قميصه مزرّر بكيفية تكشف عن صدره ، أما سرواله فقد فقد زرقته حتّى ابيض . الألوان والأضواء تبدو محتضرة والغرفة تعكّرت بروائح التبغ والرطوبة والكتب القديمة ، روائح عطنة تبعث على الاشمئزاز والتقزّز..
-( كم أنا شقيّ ، حينما أرى أنّ وجودي في الحياة لا معنى له ، يجب أن أكتب ، يجب أن أخط على هذه الأوراق البيضاء كتابي .. إنه يعذّبني . . يعجّ في داخلي ويقطع علىّ أنفاسي ، إذا لم أكتبه فسيبدّده الزمان ، وتدوسه الأيّام ، ويبتلعه النسيان ، وتضيع آمالي ومطامحى …
يتناول الريشة . . يحاول أن يقتلع الكلمات من الجدار ومن السقف ، ومن ذلك النور اللاّهث .. يكتب سطورا ثم يترك القلم يسقط على المكتب ويسند ظهره إلى الجدار ويخاطب نفسه : ( إني أشعر بتعب لامتناه ، أشعر بكل قواي تتحجّر الضيق ! المأساة ! الإبداع ! الجمال ! الخيال ! الحقيقة ! كلّها أشياء تتلاشى وتتمزّق في دماغي .. أصبحت تابوتا يحوي عظاما وأشلاء بشرية … الكلمات ، لا أشتمّ منها رائحة الحياة ولا حتى رائحة الموت .. أين أبطالي ؟ ! أين إيحائي ؟ أين أفكاري ؟ ما رسم على هذه الورقة ليس إلا ” خربشة ” صبيانية لا أثر فيها للفنّ والجمال، هذه الكلمات التي ترمقني بعيونها الحمقاء جامدة خرساء ، ربما هذه هي الهزيمة .. إنّـه الهوس .. إنّـه الجنون بعينه ! ! كيف يمكـن للإنسان ألاّ يقدر على الكتابـة ؟ كيف يمكن للحقيقة أن تنفلت من عقله ومخيّلته ومن بين يديه ؟
يشتدّ انفعاله ، يقف ، يشقّ الغرفة ذهابا وإيّابا ، تتأرجح يداه في الهواء وينصبّ العرق من شعر لحيته وحاجبيه ، يقف لحظة يغمغم ، ثمّ يجري نحو مكتبه يقبض على الورق المكتوب ويمزّقه إرْبا إرْبا : أنا محكوم عليّ بالعزلة والنسيان … لن أكون كاتبا … إنّ الكتابة أمر عسير لديّ .. أنا لا أبصر الحقيقة لأنّني أعمي .. أنا شقيّ . الكتابة تمنح صاحبها أسعد لحظات حياته … ستبقى قصتي مدفونة في صدري ..سيبقى كتابي منسوخا ومطبوعا في مخيّلتي ، ستموت الحقيقة في صدري ، أواه مهزلتي ! ! ليس في هذه الغرفة ما يستحق البقاء … ليس في عقلي ما يستحق الخلود .. هذه الكتب حقيرة تافهة لن تنفعني قراءتها ستضيع عليّ وقتي .. لن تنقلب هذه الأوراق المكتوبة أوراقا نقدية ولا خبزا يغذّينى ويحمينى من الأمراض .. هذه الكتب شقائي الأبديّ وتعاستي العظمى …
وتتطاير الكتب في فضاء الغرفة كطيور مصابة برصاص وتهوي وتتفرّق الأوراق شذر مذر … ثمّ يسقط الكاتب ويتهدّل صوته ويصمت.. يبقى مدّة ممدّدا مفتوح الساقين واليدين يئن ويتألم . في هذه الغرفة التي زلزلها بغضبه العارم والتي لفظت جدرانها وطاولتها كل حرف وكلمة تنبعث موسيقى هادئة كنشيد ملائكي موسيقى ناعمة ، نشوى تنتهي إلى ما يشبه ضحكات طفولية بريئة . وعلى هذه النغمات الشفّافة تدخل فتاة فارهة ، ذات بزّة حريرية صافية تظهر من تحت لبوسها الهفهاف كأنوار الشمس … شعرها يغطي كتفيها ، وهّاج كاللّهب ، تمسك بيدها عصا طويلة بيضاء فتبدو مروّضة أسود أو لاعبة بهلوانية . يلمحها الكاتب ،وفي غمرة عرقه يفتح عينيه ويبقى ذاهلا محاولا الوقوف متمتما:بسم الله الرحمـن الرحيم ! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . هل أنا في حلم أم في يقظة ؟
-السلام عليكم ورحمـة الله وبركاته …
-أنت في اليقظة ياسيدي .
-من أنت ؟
-وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها .
-من أنت ؟ من جاء بك في هذه اللحظة التعيسة ؟
-أنا جارتك أسكن في الطابق العلوي .
-من أنت بالتدقيق ؟ ما اسمك ؟ ومن جاء بك ؟
-أنا حسناء بحذف الحاء !
-ماذا قلت ؟
-ألم تفهم ؟ أنت طفل ذكاؤك لم ينضج بعد !
-هيّـا تكلمي ، من أنت ، وكفى عن العبث ، ليس لي وقت أضيّعـه ، كيف تتجرّئين على دخول بيتي دون إذن ولا إعلان وبكل بساطة تصفيننى بالحمق ؟ تكلّمي من فضلك أنا تعب ، لقد هصرني الألـم وعذّبني جموح أفكاري .
-قلت لك حسناء ، احذف منها الحاء … فهمت ؟
-آه فهمت يعني سناء .. ما أكثر عبثكن أنتن النسوة ، عقولكن صغيرة ومشاغلها أصغر . كفّي عن العبث من فضلك ، من أين جئت ؟ ولماذا جئت ؟
-جئت سيدي من الطابق العلوي . أنا جارتك . ألا تعرفني ؟ أنا أعرفك جيدا .. قبل كل شيء اهدأ من فضلك ، لم أكن أقصد إزعاجك .
-لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك ، لأنّك وقحة .. لكنّك جميلة وفاتنة كيف دخلت ؟
-بسيط جدا دخلت من ثقب الباب.
-هل أنت عطر ؟ هل أنت نـور ؟ هذا العبث وهذه البرودة يعذّبانني أكثر ؟
-لست عطرا ، ولست نورا ، ولكنّني دخلت وكفى ،أما لماذا جئت ؟ فهذا أمر يهمك ، جئت سيدي لأنك زلزلت الأرض فوق رأسي وبعثرت قدميّ ..
وترفع قدمها الناعمة المحبوسة في حذاء لمّاع وتشير إليها بأنامل رقيقة وتضيف :
-هذه القدم الجميلة هل تستحقّ الارتعاش ؟ جئت بعد أن عرفت أنّك تبحث عن الحقيقة .
يقاطعها ويتقدّم في سرعة صبيانية .
-الحقيقة ! الحقيقة ! تلك ضالتي المنشودة ، كيف عرفت ؟ أنت جميلة وذكيّة أيضا .
إنّني حائر أتخبّط في خضم أفكاري بحثا عن الحقيقة ، هذه الحقيقة هي التي ستجعل منّي إنسانا مبدعا .
أيّتها الحسناء إنّني فجّ المواهب وميّت الملكات .
-ولهذا جئتك لأساعدك للوصول إلى الكتابة وللعثور على الحقيقة.
-ألف معذرة يا سناء .. اعذريني على ما صدر منّي من انفعال ، لقد رأيت بعينيك عذابا لما لمحتني على الفراش أتألّم وقد زعزع الجفاف فكري وشرّدني وصنع منّي مجنونا وكتلة لحم لا بشرا سويّا .
الفتاة غير مبالية بما يقوله الكاتب ، تتقدّم خطوات ، فتشتـمّ رائحة هواء الغرفة وتصرخ :
-غرفتك كفريسة متعفّنة ألا تشمّ ؟ هل سدّت خياشيمك بالغبار ؟ لو تتجّمع طيوب الهند وفارس لما استطاعت أن تمحو هذه الرائحة الكريهة .. إنّها رائحة الموت ، رائحة الفناء .
تسدّ أنفها بيدها وتقترب منه وتلمس جمجمته بعصاها وتضيف .
-هذا الغبار وهذه الروائح هي الّتي صلبت فكرك .. هذه الأوساخ بلّدت ذهنك وحسّك حتّى انتابك العجز والفشل .. ستبقى في انهيار إلى أن تحطّم رأسك على الجدار ، عندئذ ستهمل الحقيقة وتبقى باحثا عن عقلك .
ويردّ في حياء :
-اهدئي من فضلك . لا أريد إغضابك ، لكن ما دخل غرفتي في بحثي عن الحقيقة ووصولي إلى الكتابة ؟
-نعـم سؤال وجيه لقـد بدأت تقترب من الفهم ، الحقيقة سيدي لا ندركها إلا بشروط كثيرة وصعبة أيضا .
كي تبلغ حقيقتك يجب أن تكون في محيط طبيعي نظيف وطاهر ، يجب سيدي أن يخلو محيطك أساسا من جرثومة الموت اللامتناهية الدقّـة ، إن هذه الجرثومة كالقنبلة العنقوديّة ، تبثّ خطورتها في الكون تراها تحت المجهر في شكل جميل ولكنّها تنشر الموت وتفني البشرية .
-نعم ، نعم واصلي .
تواصـل سناء حديثها بلهجة أستاذ يلقي على تلامذته درسا في علـم الجراثيم …
فيسلم الهواء الّذى يدخل رئتيك ويخرج ويحرّك دماغك، فيسلم من عصيّة كوخ جرثومة السل الّتي تكون دمالات متورمة ،تصاب بالتآكل بسبب انعدام الأغشيـة ،وتأكل العصيات العضو ثم تموت ،ولا تحقّق أبسط الأهداف الّتي تجرى وراءها، بعقلك هذا المتصلّب ،وفي غرفتك هذه المتعفّنـة !
-لقـد أخفتني أيتها الحسناء ، غدا أنظّف محيطي وينتهي الأمر ، ثم اهتمي معي بالحقيقة هذا هو المهم .
-حسنا عالم الطبيعة يخيفك ! غدا في مثل هذه الساعة نتجادل في الحقيقة .
-دعيني أقبـلك كانطلاقـة لتعارفنا .
-لا … ! لا تقترب ، إيّاك أن تفعل فإنّك لا تدرك الحقيقة بهذه الطريقة . تصبح على خير أيّها المبدع.. .
-تصبحين على خير يا سناء الجميلة .
يقبّلها في الهواء وهي تنصرف على أنغام تلك الموسيقى التي صاحبتها عند دخولها .