لصحيفة آفاق حرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معتقل كورونا
بقلم المحامي محمد الغانم
شمسنا التشرينية خجلى وتخفي في ثناياها وخيوطها المُنبعثة نسمات لاسعة وهناك غيومٌ بعيدة ما إن تتشكل حتى تعود لتنقشع من جديد …
لا نستطيع التحلل من لباسنا القطني الدافئ ولابد أن يكون طويلاً وبِكُمِ ليحفظ لنا جلودنا وأبداننا من تسرب هبات الهواء القارسة …
ها أنا أجد نفسي بين جدران منزلي ملتزماً بالإقامة الجبرية التي حكمت بها علينا محاكم كورونا التعسفية وباتت حركتي لاتتعدى حدود شقتي …
أقف على الشرفة وأطل إلى الأسفل فلا أجد إلا السكون يرمي بضلاله وغياب الحياة وشللها والشبح يخيّم من كل جانب على المكان الذي لايألف بالعادة إلّا الحركة الدؤوبة والضجيج ومزامير السيارات …
إنها أجواء كورونا الوبائية وما خلفته وزرعته من آثار جانبية ومفاجآت وقرارات محلية وإقليمية وعالمية وأرقام باتت مذهلة وتنذر بجائحة.
أغادر شرفة بيتي وأذهب إلى المطبخ حيث يغريني ما به من أطعمة وأبدأ بالقرش والهرس من غير نفس، ولايثنيني عن مشواري إلا صوت سيارة تقترب وهي تعوي ويو ويو ويو فأهرع لشرفتي لأستطلع الخبر …
لم تعد الحياة جميلة وباتت أشبه بعيش القبور ولا ندري إن كان القبر أشد عزلة ووحدة مما نحن فيه …
أتابع الواتس والفيس وأقلِّب صفحاته فأجدها مليئة بالحشو وسفاسف الكلام فيصيبني المقت والإعياء وأبحث من بين قوائم الشرفاء سيما القدماء وأسارع حين أجد صفحة أحدهم نشطة بالاتصال …
ها أنا أعيش مواسم النوم والوساوس القهرية والأحلام الكريهة وأتناوب مابين فيلولة وغيلولة وعيلولة وجميعها تعقد عليَّ “مؤامرة كونية خبيثة” ولا تحمل لي إلّا العلل والأمراض وتكدر النفس المليئة بالأحزان …
ها قد دخلت غرفة الإعاشة والطعام وأجد طاولتها تحتوي على أصناف من الفواكة والمكسّرات ولا أجد بقربها لذة ولا طعمًا فأسارع بالابتعاد …
يرن جرس هاتفي فالتقطة بلهفة فأجد من تسألني – كوني محاميًا – عن دعوى طلاق ونسيت هذه السائلة المسكينة بأننا جميعاً قد طلّقنا مواسم الفرح ولم يعد هناك أمامنا سوى التعايش السلمي في ظل القادم والخوف من المجهول …
يعود الهاتف نفسه يناديني بصوته الأجشّ وأرفع السماعة بلهفة لأسمع صوت أمي يغزو مخدعي وخلوتي ويداعب قلبي حتى يبدأ بالخفقان مع ضخ وتجدد دورة دمي من جديد وأستعيد حيّزًا من وجودي وإنسانيتي وما زالت أمي توصيني وكأني مازلت صغيرها … ياولدي انتبه واحذر من خطر الغاز ولاتنساه مشتعلاً وأغلق جرته كلما انتهيت من استعماله ولا تنس بأن تخفف من تناول الملح والسكر وتقلل من أكل اللحوم وكلما وهبتني بوصية من وصاياها المتجذِرة المتجددة أكتفي بكلمة حاضر حاضر حاضر …
بت لا أسمع صوت طيوري وكأنها حزينة ومتضامنة معي وتشاركني حزني لكني أستفقدها وأطلُّ عليها فرفقتها أفضل من رفقة بعض البشر وخدمتها والوقوف عند احتياجاتها أمر صار ضروريًّا وبت أحفظ مواعيد طعامها وشرابها ومواسم الإخصاب والتفريخ لديها وقد فتحت لها أبواب القفص والشباك الخارجي لعلها تغادر سجنها وأتحلل من عقوبة حبسها لكنها أبت ولا أدري أهي متعاطفة معي ورافضة تركي وحدي لأني أطعمها وأُحسن إليها أم أنها باتت عاشقة للسجن والذل والإقامة الجبرية كما هو محكوم علينا داخل أوطاننا الكبيرة وكذلك بين الحين والآخر أتابع أمور أحواض زريعتي وألقي إليها نظرتي ولا أجدها تنمو بل أنها تصغر وتذبل وبعضها يغادر دنيتي ولاتبعث برائحة عطرية كما قِيل لي حين اشتريتها وكأنها مصابة بالكورونا ولولا أنّ فحصَه غالٍ ولا أقدر على ثمنه لكنت فحصتها ووقفت على سر عقوقها في مرحلة حرجة كم أنا بأشد الحاجة إليها …
ها هي روائح الطبخ بدأت تتسلل من بيوت جيراني بالعمارة وعليَّ أن أسارع في إعداد طبختي لهذا اليوم لأتبادل مع من يدقّ بابي سكبات من طعامِ والآن اعذروني يا سادة كرام ويا سيدات ذوات مقام وبعد أن نضب الكلام وباتت الأمعاء في البطون تشكو خالقها وليتبعها جرعات من دواء ولعلّ الله يغير الحال ويصبح المحال سهل المنال وتذهب كورونا إلى غير رجعة ونخرج من قوقعتنا وسجننا المرير وما على الله ببعيد …
#خربشات_أبو_غانم