آفاق حرة
الناقد / محمد رمضان الجبور / الأردن
(ضفاف الحنين) مجموعة قصصية للأديبة الدكتورة جميلة الوطني من مملكة البحرين، تقع المجموعة في مئة صفحة من القطع المتوسط، وصادرة عن دار يافا للنشر والتوزيع في عمَّان. وقبل أن نلج إلى عمق هذه المجموعة القصصية المتميزة بما ضمت بين دفتيها من قصص حاورت فيها الدكتورة الأديبة جميلة الوطني مفردات متعددة، لا بد أن نقف عند عتبات هذا العمل الأدبي الخارجية والداخلية لنتعرف على مدى علاقتها بهذه المجموعة القصصية، ففي العتبة الأولى والظاهرة للعيان نتوقف عند غلاف هذه المجموعة، فقد زيّن الغلاف الأمامي لوحة للفنان الفلسطيني أسماعيل شموط الذي طالما جعل من القضية الفلسطينية همه الأكبر، واللوحة يظهر فيها مجموعة من الأشخاص يمثلون الهجرة الفلسطينية والشتات الفلسطيني، وتحت الصورة عنوان المجموعة القصصية (ضفاف الحنين) الذي يؤكد ما رمت إليه القاصة والدكتورة جميلة الوطني، فالحنين دائمًا وأكثر ما يكون للأوطان، فلا يُذكر الحنين إلا والوطن له النصيب الأكبر من هذا الحنين، وإذا انتقلنا إلى العتبة الداخلية للعمل نجد الإهداء، في الإهداء نلمح مفردات وعبارات تذكر المهاجر والوطن والغربة، تذكر ألم الغربة والهجرة، فهي تُذكر المتلقي والقارئ لهذا العمل الأدبي المميز بما باحت به هذه القصص من حديثٍ عن الوطن والغربة “حيث أنتم تنتظرون، حدقاتكم دمع ومواجعكم صبر، حيثما تكون، يكون المهاجر، ولكل محتسب صابر، أغدو إليكم حرفًا وعبرة، أرجو أن يكون بلسمًا وضمادة، فراق لن يهون، مهما كان أو يكون، إلى الأوطان وكل الشعوب في الغربة والمهجر”[1]
وعتبة أخرى تبرز عندما نقرأ المقدمة التي قدّمت بها القاصة والدكتورة جميلة الوطني كلمات ممزوجة بإحساس عميق، تحدثت فيها بلغة أقرب إلى الشعر من النثر، فذكرت الوطن والغربة والمهاجر في صور تدل على جمال الذائقة الشعرية عند الكاتبة، فكانت المقدمة زاخرة بالدلالات الحسية لما أرادت القاصة، بدت المقدمة صورة توضح الألم الذي يعاني منه كل من تغرب عن وطنه، فلا شك أن هذه المقدمة الرائعة قد مهدت الطريق للمتلقي للدخول إلى متن العمل.” رويدًا رويدًا يتلاشى الهروب فيُنسى رحم الوطن! ينشد هؤلاء المغتربون شهوات دون قيد، دون جسد مثقل بوطن كالزنازين. وطن ينمو في أحشائه ويتمخض بحرًا وطن الحرب، وطن المر، وأرض دموية تشهد على توابيت من الغربة والشتات.” [2]
ضمت المجموعة خمس قصص طويلة بعض الشيء، بعناوين لها دلالات تؤكد ما بدأت به القاصة في مجموعتها، ابلع دموعك يا بحر وكان هناك عناوين فرعية في هذه القصة، ضفاف الحنين، وهي القصة التي عنونت بها الكاتبة مجموعتها، أنين المنافي، قيثارة مخيم، لاعبة الجمباز.
ومن خلال عناوين القصص، نرى أن القاصة قد أولت اهتمامها بقضية الوطن والغربة والهجرة، فالعنوان في كثير من الأحيان هو نصف القراءة، ففي قصة ابلع دموعك يا بحر، تبدأ الكاتبة قصتها بالحديث عن الوطن العربي بلوحة جميلة ولغة شعرية وجمل بلاغية، ممزوجة بإحساس مرهف، ومفردات نابعة من قلبٍ يتوق ويشتاق لوطنٍ عربي كبير “من سيفضح خارطة الوطن العربي، وقد كانت سجادة النسك لعروبتنا بعد أن تخطينا فيها جميع الحدود! بعد أن زينت دروس الجغرافيا ونسيت أن تفضح التاريخ! خارطة من ورق صلينا عليها صلاة حاجة للوحدة، بعد أن توضأت العيون باثنتين وعشرين دولة، وتكحلت بطول الشواطئ وتوسعت قريحة الخلجان” [3]
وتكملة لأحداث القصة، تحكي قصة فتاة تسترجع ذكرياتها وهي تسافر مع والديها على ظهر مركب في بحر ليس له أمان، قصة تحكي قصة المهاجرين من أوطانهم هربًا من الظلم والقسوة ليكونوا طعامًا للبحر والأسماك، كثيرًا ما سمعنا في نشرات الأخبار عن هؤلاء الذين يهاجرون عن طريق البحر ويكون مصيرهم الغرق والموت، يفرون من الموت إلى الموت، وقد أجادت الكاتبة في وصفها الدقيق لهؤلاء الناس، وللعنصر الأكثر وضوحًا في النص – البحر-، فقد أصبغت على البحر الصفات الإنسانية، فعنوان القصة (ابلع دموعك يا بحر) تنهي القصة بعبارة (كفكف دموعك يا بحر)، فهي تنفي التهمة عن البحر، وتعاتب الأوطان.” البحر يهزم الجميع، ويمثل بالجثث على مرأى عيون العالم، وفوق سطح البحر، ومن ثم يرميهم في قاع المحيط، جثث دفنت في القاع، وفي بطون الأسماك، وأخرى بلا شواهد ابتلعتها الأرض. جثث لم تنطق حناجرها هتافات سياسية، ولم توزع بأيديها مناشير ضد الوطن، ولا كانت لهم مطالبات اقتصادية، ليبقوا على قيد الحياة، شفاه لم تنبس ببنت شفة، وجثث منفوخة بالماء، تتحول مع الزمن إلى زيت غالي الثمن، يكتشف، ويكون ملكًا خاصًا! وكفكف دموعك يا بحر.” [4]
قفلة القصة جميلة جدًا، فهذا الإنسان الذي كان لا يساوي شيئًا في وطنه يعود ويصبح شيئًا غالي الثمن.
وفي قصة ضفاف الحنين وهي القصة التي جعلتها الكاتبة عنوانًا لمجموعتها، وتوظف الكاتبة مقهى يضم العديد من الجنسيات العربية، أحدهم من سوريا وأخر من لبنان، وثالث من العراق، وطالب عمل يبحث عن عمل من السودان، فالمقهى ما هو إلا الوطن العربي الصغير، وصاحب المقهى يضع لهم أغنية مرسيل خليفة “أحنّ إلى خبز أمي… قصيدة للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش،” حين تهرم ستفهم معنى الحنين والاشتياق وأنت في بلد الغربة والمنفى، ستفهم معنى كلمة الوطن، سأجعل درويش صاحب كلمات الأغنية يخبرك ما معنى كلمة وطن”[5] فالأغنية تسبب للبعض الضيق والألم لما فيها من كلمات عن الحنين للوطن الأم، فيحدث نزاع وعراك في المقهى بسبب الأغنية، فهناك من يرغب بسماعها وهناك من يرفضها، وهكذا حال الأمة العربية، فهي في نزاع دائم بسبب أمور تافهة لا قيمة لها، إسقاط جميل من الكاتبة، وفكرة غير مسبوقة من الدكتورة جميلة الوطني في تصوير الوطن العربي وما يعاني من خلافات.
“هل لي بالعمل في أجواء كهذه؟ هل لي أن أعيش في وطن عربي مصغر؟ كيف لي أن أحتمل هذه الصراعات التي تشبه صراعات الدول؟ أعتاد العرب الخلافات والاختلافات والشجار في كل مناحي الحياة حتى الاجتماعية منها؟ نعم هربت من صراعات وطني فلماذا أعيش صراعات عربية مشابهة هنا؟” [6]
القصة جميلة بكل عناصرها، تحمل في طياتها فكرة بأسلوب سرد جميل ومعبر، وظفت فيها الكاتبة الأغنية والشعر والخطاب السياسي، بلغة ترقى إلى لغة الشعر وبلاغته.
وفي قصة أنين المنافي، تتحدث الكاتبة عن ألآم الغربة والحنين إلى الوطن، في قصة فتاتين تعيشان في الغربة وفي بلد أجنبي غير بلدهما، تلتقيان صدفة في أروقة العمل، وتنمو بينهما صداقة حميمة، فهما تريدان نسيان تعب المنفى وألم الغربة بهذه الصداقة، تسقط الكاتبة القضايا المجتمعية بين الفتاتين ومعاناتهما في الغربة، كما توظف الكاتبة في هذه القصة بعض المقاطع الشعرية، فالدكتورة جميلة تحن إلى الشعر وكتابة الشعر حتى في قصصها:
حدثّت نفسها كيف للقاء (الصدفوي) أن يجعل من صحراء الغربة محطة تخضر وتزهر بين ليلة وضحاها:
للصدفة محطات
أولها روحٌ
تشهقُ ضوءًا
للفؤاد المذعور
ليهطل مطرًا، هطولًا
وارفا ً
تخضر الصحارى
ويزهر الإطراء بنفسجا ً
فتطرز الروح بالألق
ليصبح عطرها الزعفران
وترابها الشهد” [7]
القصة تحكي معاناة الغربة والهجرة، تصف الكاتبة الألم الذي يعاني منه المغترب عن وطنه وأهله، تذكر الوطن، وكيف أن الوطن هو الأجمل والأحلى في حياة الإنسان “السماء تزينها الكواكب ويبقى أجمل ما فيها الشمس، فأوطاننا أجمل الشموس إن لم تخترقها الغيوم” [8]
الفضاء القصصي للمجموعة يحكي عن الوطن، وقيمة الوطن في حياة الإنسان، وأهمية الوطن، وكيف أن الوطن هو البلسم لكل داء، وعن الغربة ومتاعبها، فالجو العام للمجموعة يصب في بحر واحد هو حب الوطن وذم الغربة. فالوطن والغربة هما الوتران اللذان عزفت عليها الكاتبة في هذه المجموعة الرائعة.
وهناك قصص أخرى في المجموعة تصب في بوتقة الوطن والغربة، قيثارة مخيم، ولاعبة الجمباز، وان كانت تعكس بعض القضايا مجتمعية ونفسية وصحية التي يعانيه النازحين في الخيام والمخيمات، ولكن نكتفي بالقصص التي مضت في توضيح الفكرة التي أرادتها الكاتبة والقاصة الدكتورة جميلة الوطني، نبارك لها هذا الإنتاج الأدبي الجميل لرفد رفوف المكتبة العربية بهذا العمل الأدبي الرائع.
[1]قصص ضفاف الحنين ص7
[2]قصص ضفاف الحنين ص 12
[3]قصص ضفاف الحنين ص 15
[4]قصص ضفاف الحنين ص 30
[5]قصص ضفاف الحنين ص 40
[6]قصص ضفاف6 الحنين ص 44
[7]قصص ضفاف الحنين ص58
[8]قصص ضفاف الحنين ص 69