رجل عجوز بهي الوجه نابي الصورة أزرق العينين ، عريضاً ضخم الأطراف.مخشوشن اليدين، قد أكسبه العمل قوة العضلات، ووهبه الجهد والصبر الأمل في الحياة.
لم يكن تقدمه بالسن يمنعه من العمل في مزرعته مدمناً على فلاحة الأرض وسقاية المزروعات قلما كان يستقيم دائما ينظر إلى الارض مقوس الظهر يزيل الأعشاب الضارة من حول سيقان الأشجار ، يتفحص الأغصان و الأوراق و تستقر عيونه بإبتسامة عند تفتح نوار الأشجار.
مع مرور السنين أصبحت مزرعته روضة ذات منظر يملأ العين، ويبهج القلب. يتوسطها منزل صغير غرست على جانبيه أشجار الصنوبر، تطوقه الأزهار كأنها عقد من أحجار كريمة بجيد غيداء فاتنة .
لم يكن صوته عذباً ولا مقبولًا، وإنما كان غليظاً فجاً، ولكنه مع ذلك لم يكن يخلو منزله كل مساء من أترابه و رفاق عمره يجلسون يتسامرون على مقاعد خشبيه تحت نجوم الثريا، و نسمات الهواء العليل محملة بعبق الزهور تداعب أرواحهم. يرتشفون أكواب الشاي المخمر ذاكرين بنبرات حلوة ، ما مر عليهم من زمان مضى فيتنهدون بحسرة على صديق فقدوه منذ سنين أو يضحكون بضحك غليظ مخيف يسمع من بعيد على حادثة طريفة مرت معهم ذات يوم .
كان للعجوز إبن وحيد يسكن في المدينة و كان محط اهتمام أهل القرية وحديثها.
لقد عمل بالتجارة بعد تخرجه من الجامعة و جمع ثروة لابأس بها يركب أحدث السيارات وله منزل في أرقى أحياء العاصمة.
كان مستاءاً من عمل والده و كده في المزرعة و أخيراً قال لأبيه لقد حان الوقت للاستمتاع بحياتك و تركك لهذه الأعمال المجهدة كما أنه لا استطيع أن أتركك بعيداً عني ، قد يفاجئك المرض بأي لحظة و ما عساي افعل حينها.
بعد إلحاح الإبن وافق الأب على الإنتقال لبيت إبنه و باع المزرعة.
كان كل ذلك مخالفًا لرغبة العجوز و كم كان يتمنى ان يموت بمزرعته و يدفن تحت ظلال شجرة التوت التي تتوسط الأشجار باسقة كأنها الملكة تسجد لها باقي الأشجار.
وبعد وقت قصير من انتقاله إلى منزل ابنه ، سئم الحياة بالمدنية المتكلفة، وضجر من العيشة المصنعة بها و لم يستطع تحمل الضوضاء يجلس على الشرفة و يقارن الابنية الأسمنتية واشجار مزرعته و أصوات زمامير السيارات و مع أصوات الطيور في الصباح و هواء قاتم اسود يغطي المدينة مع النسيم المعطراً بعبق الورود. ثم يذكر رفاقه وسهراته معهم و هو الآن وحيدا يجول من غرفة إلى غرفة في ارجاء منزل فسيح .
من كثرة التفكير ساوره المرض والشجن واستولى عليع الغم واليأس فيئن أنيناً شجيا كأن بين جنبيه داء مبرحاً وفي أحشائه ناراً ملتهبة، وهكذا كانت تضيق به الحياة ذرعاً، ويسخط على المدينة كرهاً.
لم يعد يكلم إبنه و انزوى وحيداً بائساً. جسده ينسل كل يوم. حتى اخذ الهم و الحزن إبنه و قال ذات يوم : ابي ماذا تريد؟ اطلب فإن الروح رخيصة لاسعادك. لا اريد إلا أن تعود كسابق عهدك.
دمعت عين العجوز و قال بحسرة اريد مزرعتي.
قال الأبن لكننا بعناها يا أبي . و لكن إعتباراً من الغد سأفعل المستحيل كي استعيدها.
في مساء اليوم التالي دخل الإبن باتجاه والده مسرعاً و الإبتسامة تملأ وجهه. اقترب من والده و قال : هذه أوراق المزرعة لقد اشتريتها لك و لقد دفعت ضعف المبلغ الذي بعته بها سابقاً لا تهم كل أموال الدنيا امام سعادتك. ابتسامتك ورضاك أهم مما أملك بهذه الحياة .
ابتسم العجوز و هم واقفا و قبل ابنه و قال هيا هيا الى المزرعة لا بد أن الأشجار اشتاقت لي و انا اشتقت لها.
كان يجلس بجانب ابنه في سيارته و الطرقات تمتد أمامهم وتنبسط، ثم قال :
يا بني السعادة قد توجد في الأماكن التي لا تخطر على بالك ، فالمواضع التي لا تبهجك تكون هي السعادة التي يتمناها غيرك ، إن سعادتك هي بالشهرة و الثروة و مركبة حديثة و منزل كبير به ما بها من الرفاهية ، و إنما سعادتي يا بني في قريتي تحت ظلال أشجار مزرعتي بين رفاق دربي.
و تذكر لكل إنسان طريقة يجد بها سعادته فلا نفرض رؤيتنا عليه.