آفاق حرة
بقلم : سمير أحمد الشريف
تلتقي نماذج القصة العربية عموما في إطار القضايا والرؤى والوعي الجمالي، وهي خير معبّر عن الواقع العربي العام.
انهارت بعد الحرب الكونية الأولى قناعات المثقفين وتغيرت ثوابتهم، وأصبح التقدم العلمي كابوسا ولعنة وطاحونة الخلاص من البشرية فتبخرت العاطفة وبرزت الأنا ووصل الإنسان حالة من الاغتراب وصار صريع القلق والتشظي، وجاء “جيمس جويس” بسرديته “عوليس” متجاوزا المألوف السردي، معتمدا منجزات علم النفس وسبر أغوارها.
عربيا، حلت نكبة فلسطين 1948 ومهزلة السادس من حزيران 1967لتقلب الموازين ، وتفجّر التساؤلات لدى المثقفين والكتّاب وأصحاب الرأي، وتغير مقولة (الشعر ديوان العرب) لتصبح الرواية ديوانهم.
قيمة الفن تعني الإنسان في علافته بالواقع وانعكاسه موضوعيا ، معبرة عن رؤية الكاتب وتجربته التي ينصهر فيها إدراك جماليّ للواقع منصهرا بمضمون فنيّ ، بعيد عن المباشرة والخطابية ، تُمكّن الكاتب من طرح مضامين فنية لموضوعات واقعية وإعادة صياغة الواقع فنيا ، محققا وحدة الأثر والانطباع ومعالجة الهم الاجتماعي كسلطة العُرف والتقليد بتوظيف جمالية المكان دون استخدام مسرف لمقدمات وصفية مجانية ودون اعتماد على جمل جاهزة وصور لغوية مكررة وتعابير جاهزة عفا عليها الزمن .
في مجموعته القصصية الجديدة ” أكاذيب المساء ” الصادرة حديثا بدعم من وزارة الثقافة ، يضيف القاص والناقد محمد رمضان الجبور مدماكا جديدا في بناء منجزه السردي هذه المجموعته ، بعد أربع مجموعات صدرت له من قبل :
/ جدار الوهم/ أبواب للدخول فقط/ تعيش أنت/ ومجموعة أحلام ممنوعة .
إضافة لتجربته النقدية والشعرية ، فقد عمل الأاستاذ “الجبور ” في الإذاعة الأردنية معدا لبرامج ثقافية :
كالبرنامج المنوع ( دندنات كلمة) من تقديم الأستاذ خلدون الكردي ، والأستاذة سمراء عبد المجيد .
وبرنامج (من القرآن والسيرة) مسلسل تاريخي ديني، عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل المولد ، وفي مجال الكتابة الدرامية للتفزيون كتب أيضا
مسلسل بساط الريح ، الموجه للأطفال للأطفال في ثلاثين حلقة.
تعمّق القاص بالنفسي الاجتماعي وناوش أليومي المعاش وعرّى سلبيات المجتمع وأنصف الشخصيات المأزومة التي تستعيد ماضيها لتعيد تشكيل حاضرها من جديد، ووظف تقنية الراوي العليم وضمير المخاطب واللغة الشعرية والتقطيع السينمائي، والجملة القصيرة البعيدة عن الترهل.
تكثيف النصوص أول ملمح يصادف المتلقي لقصص هذه المجموعة التي أدرك كاتبها ضرورة التكثيف لما تمليه ضرورات العصر والسرعة ومزاحمة وسائط التقنيات الإلكترونية الأخرى للكتاب ،فصار على المبدع ألعمل لإيصال فكرته ورسالته بأقل عدد من الكلمات ، حيث تجاوز العصر وضروراته المطولات والسرد الذي يسهب في التفاصيل مما لا تحتمله أوقات الناس في عصر النت والسرعة ، ويتبدى ذلك في نص المجموعة الأول “وصول”الذي جاء مكثفا في صفحة واحدة وتميز بجملة الإفتتاح المشوقة ، “يقف طويل ينتظر مركبة تقله إلى عنوان ضاع منه”، هذا الإستهلال الذي يشد المتلقي ويدهشه ويضعه في دائرة التساؤل ويشوقه لمتابعة تفاصيل القصة ليفك رموزها ويقف على نتيجتها ، ومن ثم يحترم عقل ووعي المتلقي ويشركه في فهم وتحليل النص.
في نصه ” ليس الآن” الذي يلتقي مع نص “الجثة ” لاحقا , يوظف الكاتب ضمير المتكلم بما يشكله من قرب وحميمية للمتلقي ويوحي له أن الكاتب يسرد حكايته الخاصة ، واضعا للنص نهاية مفتوحة معبأة بالرمزية والتشويق ، والتساؤل لدى المتلقي :ماذا حدث لعبد الستار ولماذا كان الموت مصيره ؟
“لم أبذل جهدا يذكر في جمع القصب …بدأت أصل العصي ببعضها كما تفعل القرود، شعرت بلذة الانتصار والعصي تقترب من الجسد المسجى ، من الجثة المتعفنة التي لا تريد الاستيقاظ …حزنت لأنني فشلت للمرة الثانية ، وندمت لأنني لم أتعلم السباحة قبل اليوم” ص 17.
في قصته ” موت الحصان والأمر 72 “، يستخدم الكاتب ضمير الجمع موظفا السجع كصيغة مبالغة ناقدة ، راصدا النبؤة والتحول في تشيء اإنسان وتحوله لمجرد رقم دونما تقدير لكينونته الإنسانية “منذ اليوم ستنسون أسماءكم ، سيصبح لكم منذ اليوم أرقاما هي الوحيدة التي تعرف عليكم ، وبدأ يحذف أسمائنا ويستبدل بها أرقاما لاحظت غرابتها وتباعدها لكنها لا تخلو من رابط” ص 28 ، وليضيء من جانب آخر عدم ملائمة البيئة لحياة الفرد السوي “هذه الدورة عبارة عن مجموعة أوامر تبدأ بالرقم واحد وتنتهي بالرقم 72.ارتاحت نفوسنا عندما علمنا أن الأوامر لا تزيد عن اثنتين وسبعين ، وبدأنا نحلم من جديد بالرحيل عن هذه الصحراء ” ص 29 التي لاقت المجموعة فيها أقسى المعاملات التي يتبرعم منها السؤال :هل القسوة تخلق الإنتماء؟ ومن ثم تكشف الغطاء عن صفحة من المسكوت عنه ” وهو يدوس على وجهه ويأمره بتناول قطعة من الدهن قد تعفنت وأصابها الجرب ولم يرفع قدمه عنه إلا بعد أن أكلها …كرهنا صوت الصافرات ودعونا الله أن يريحنا من صوت صافرة المدرب” ص30،التي تكون دليل شؤم على وقوع العقاب الجماعي ، والنتيجة تسويف وضياع للوقت ” دخل علينا المدربباسما :احزموا أمتعتكم، سوف نغادر هذه الصحراء ، وبعد أن سارت بنا الحافلة قليلا ، وقف المدرب ، وعبر الميكروفون الداخلي أعلن أنه قد وصل إليه الأمر 72وينص على إلغاء الدورة.
في قصة ” أكاذيب المساء” التي منحت المجموعة عنوانها ، يرصد النص لإيقاع الزمن عبر مقدمة تشويقية موفقة ” لإكثر من عشر سنوات والمقهى هو المقهى ،واليل هو الليل ، والكراسي المتحلقة حول المناضد المهترئة هي هي، والأحاديث تعيد نفسها وتجتر ما فاتها ، لم يتغير شيىء سوى أوراق التقويم” ص40، في لمسة رمزية فلسفية ناقدة “سيزيف ، ما زال يحملا صخرته ويحاول الوصول للقمة ، وإيكاروس يحاول أن يطير بجناحين من الشمع باتجاه الشمس ص 43 ، ثم يأخذنا النص لعالم البحر بفضاءاته ومحمولاته الرمزية وتوظيف مفردة “القارب” بدلالاتها وموحياتها للعمر والحلم والوطن ، ونهاية القصة بقفلتها الجميلة “هل آن لنا أن نعود؟ إلى متى سيبقى هذا القارب مبحرا في أزقة البحار الضيقة وباتجاه شمس لا تشرق…قاربي ما زال في عرض البحر ولا أحد معي سوى ذكرياتي وحفنة من أكاذيب المساء ص47.
في قصته ” من أنت ” يستخدم الكاتب ضمير المتكلم موظفا الموروث التاريخي بنقد يقطر سخرية ونهاية مفتوحى تشرك المتلقي وتحترم ذائقته ووعيه” “أنا من سرق سيف المتنبي خوفا من أن يتل في معركة خاسرة ، أنا من قتل عنتره العبسي بعد أن أصابه العمى ، لأسجل نصرا مزيفا ، أنا من قتل ناقة البسوس لتقوم الحرب بين قبيلة تغلب بن وائل وقبيلة بكر ،انا من سرق لقمة الفقراء واليتامى لبني قصرا ن أنا ….” ص 60.
ولأننا نعيش في زمن الأنترنت ، والسرعة التي باتت كلمة السر في كل ميادين الحياة ، والمنابر التكنولوجية العديدة فقد مارس الأستاذ الجبور تجريب كتابة الومضة القصصية المختزلة المحملة بالإيحاء والتشويق والرمز والمفارقة كما في “نافذة” منها أطل برأسه يستنشق الهواء بعيدا عنكل ما يمت إلى التكنولوجيا ، ومنها ألقى برسالة لجارتهم التي ما انفكت تومىء له بعينيها ، ومنها يستمع لجارة لهم طويلة اللسان تشتم جارتها … وكما في ومضته “فاصل” تلعثم …تتعتع … تلكأ المذيع طويلا وكثيرا وهو يحاول سرد أسباب انفجار ما ، راح ضحيته مئات الأنفس البريئة ، ثم واصل قراءة النشرة بعدأن توقف لبثّ فاصل دعائي عن مسحوق غسيل جديد” وهذا من مقتضيات العصر وما فرضته التكنولوجيا الحديثة .