تَخرجتُ مِنْ كُلِّيَّةِ الطِّبِّ ، وَ عُينت فِي قِسْمِ أَمْرَاض النِّسَاء وَالتَّوْلِيد فِي الْمُسْتَشْفَى المركزي . لأتدرب تَحْتَ إِشْرَافِ الدكتورةِ مَها ، وَهِي رئيسة القسم المعروفة بخبرتها كَبِيرَة . مُتَمَكِّنَة باختصاصها . تُعْطِي الْمَرِيضَة حَقِّهَا وَتُجِيب عَلَى جَمِيعِ تساؤلاتها .
تبذلُ قصَارَى جهَدَهَا بِإِخْلَاص لتَطوير مهارات مدربيها، وتحرص كل الحرص كي اطِّلَاعهم على أَسْرَارِ المِهْنَةِ الْخَفِيَّة . ليزدادوا ثِقَةً بِأنفسهم.
تثابر على تعليمي فَنّ التَّعَامُلَ مَعَ الْمَرْضَى .
وَتقول: في كُلَّ يَوْمٍ نسمع من المريضات قَصَص وَحِكَايَات عَن الْأَزْوَاج وَالْأَطْفَال ، بَعْضِهَا حَزِينٌ وَبَعْضُهَا سَعِيد .
تخدرت قُلُوبِنَا من هول ما نسمع فنهز رؤوسنَا بِالْمُوَافَقَةِ وكأننا مقتنعين بِمَا يسردن من روايات. نَكْتُم أَسْرَارِهِن وَلَا نتدخل فِي الشؤون الْخَاصَّة . نَقُوم بواجبنا بِإِخْلَاص و تفان نَشْعر بِوَجَع الْمَرِضى وَلَا نتألم . فِي الْوَاقِعِ يَكْفِينَا مَا نعانيه من ألام الْحَيَاةِ وَلَوْ أضفناها فَوْقَ معاناتنا لِمَا عِشْنَا بَعْدَهَا لَسَاعَات .
بَعْدَ مُرُورِ أَيَّامٍ فَقَطْ ، اِكْتَشَفْت أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالُ . وتعلمت بِسُرْعَة رَسْم اِبْتِسَامَةٌ احترافية وَالتَّحَدُّث بِصَوْت عَاطِفِيٌّ . يُشْعِر الْمَرْضَى بِالْحَنَّان وَالْأَمَان .
ذَاتَ يَوْمٍ تَأَخَّرَت الدكتورة مَها عَنْ عَمَلِهَا ، اِسْتَنْفَر قِسْمٌ الْإِسْعَاف لِإِنْقَاذ شَابَه حَامِلٍ كَانَتْ فِي حَالَةِ حَرِجَةً ، يرافقها زَوْجِهَا وَأُمِّه العجوز .
بَدَا الزَّوْجُ قلقًا وَانْدَفَع باتجاهي خَائِفًا مرتجفا . قَائِلًا إنَّ زَوْجَتَهُ تَنْزِف دماً مِنْ آثَارِ الْحَمْل . فَهِمْت مَا كَانَ يَقْصِدُه ، فارتديت قفازاتي ، وَأَشَرْت إلَى الشَّابَّة بِالِاسْتِلْقَاء عَلَى السَّرِيرِ .
تَقُول الْعَجُوز لِزَوْجَة ابْنُهَا لَا تَخَافِي سَتَقُوم الطَّبِيبَة بعلاجك اعْتَقَد أَنَّنَا وَصَّلْنَا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِب وَقَبِلْتُهَا قبلَة اطْمِئْنان عَلَى جَبِينَهَا .
تُمسكُ بيد ابْنِهَا ويخرجا مِنْ غَرْفَةٍ الْمُعَايَنَة .
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ ، حَضَرَت الدكتورة مَها معتذرة عَن تَأَخُّرُهَا . تَقِف بِجَانِبَي ، تَرَاقَب باهْتِمام مَا أَقُومُ بِهِ فَهَذِهِ هي الْمَرَّةِ الْأُولَى الَّتِي أَقُوم بواجباتي كطبيبة دُون تَدْخُل الدكتورة مَها .
أَثْنَاء إجْرَاء الفحوصات الروتينية عَلَى الشَّابَّةِ باستخدام جِهَاز الْمَوْجَات فَوْق الصَّوْتِيَّة .
سَأَلْتُهَا كَالْمُعْتَاد هَلْ هَذَا هُوَ حَمَلَك الْأَوَّل ؟ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمْلِهَا الْأَوَّل .
صَمَتَتْ وَلَمْ تَجِبْ عَلَى سُؤَالِي .
فَنَظَرَتْ إلَيْهَا وَسَأَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى هَلْ هَذَا حَمَلَك الْأَوَّل ؟
ارتجفت شفاهها واحمرت وجنتاها وَكَأن صراعاً فِي قَلْبِهَا نَشِب . تُجْبَر لِسَانِهَا عَلَى النُّطْقِ بِالْكَذِب. وَتَقُول : نَعَم ، هَذَا هُوَ حَمْلِي الْأَوَّل .
لَقَد فوجئت بإجابتها ، وَلَم يَسَعُنِي إلّا تَبَادُلُ نَظَرَاتٍ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ مَع الدكتورة مَها .
فَأَنَا كطبيبة أُكْرِه الْكَذِبِ مِنْ الْمَرْضَى لِأَنَّه سَيُؤَدِّي إلَى تَشْخِيص خَاطِئٌ .
أشعر بالغضب من جراء إخفاء الحقيقة وَكُنْتَ عَلَى وَشْكِ تَوْبِيخِهَا . اسْتَدْرَكَت الدكتورة مَها الْأَمْر وهرعت تَقِف بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَرِيضَة وَتَقُول لَهَا بِخُفِّة ، آه ، لَا بَأْسَ ، أَنْت ضَعِيفَةٌ قليلاً ، سَأُعْطِيك بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تُوَقَّف النزف ، يُرْجَى الِاهْتِمَامِ أَكْثَرَ بِصِحَّتِك وَمُدَارة حَمَلَك وَالرَّاحَة وَالِاسْتِرخاء.
الْجَنِينُ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ صِحَّتِه بِخَيْر .
عِنْدَمَا انْتَهَت مِنْ مُعَايَنَتها و علاجها دَخَلَ زَوْجُهَا فابتسمت لَهُ وَقَالَتْ ، تهانينا ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ سَتَكُون أبًا .
اِبْتَسَم الرَّجُل بِرِضَا ، ممتنا لنا.
وَاقْتَرِب مِنْ زَوْجَتِهِ وَقَدْ امْتَلَأَت أَعْيُنِهِم بِالدُّمُوع فرحاً .
ضَغَطَتْ العجوز عَلَى يَدِ الدكتورة مَها ، وشكرتها ، وأدارت رَأْسِهَا وَقَالَت لِزَوْجَة ابْنِهَا بِكَلِمَات مَلِيئَة بِالْحَبّ ، مِنْ الْآنَ لَن تتعبي نَفْسِك بِأَعْمَال الْمَنْزِل .وَافَقَت الزَّوْجَة الْحَامِلُ عَلَى كَلَامِ الْعَجُوز وَهِي تُقْبَل يَدِهَا ، لَكِن عَيْنَيْهَا ظَلَّت تتجنبني . وَقَفْت جَانِبًا ، أَشْعَر بِالْخَيْبَة وَبَعْض السُّخْرِيَة فِي قَلْبِي ، أُحَدِّثُ نَفْسِي لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الزوج وَأُمِّه مخدوعين . وَلَا بُدَّ أَنْ هُنَاكَ سِرًّا تُخْفِيه عَنْهُمَا .
غَادِر الثَّلَاثَة المشفى والإبتسامة عَلَى وُجُوهِهِمْ .
سَأَلْتُ الدكتورة مها فِي حَيْرَةٍ شَدِيدَة لِمَاذَا لَمْ تخبرينهم وتكشفي حَقِيقَة كَذَّبَهَا؟ .
فَأَجَابَت بِصَوْت هَادِي ، وَبِقَوْل لَا يَخْرُجُ إلّا مِن شَفَاه حَكِيم : بَعْضِ الْأَحْيَانِ يُمْكِنُنَا أَنْ نغْض الطَّرْف عَنْ بَعْضِ الأَكَاذِيب .
رُبَّمَا يَعِيشُونَ فِي سَعَادَة فَلِمَاذَا نعكر صَفْو حَيَاتِهِم
كَانَت مُفَاجَأَة هَذِهِ الْمَرَّةِ الْأُولَى الَّتِي أَعْرِفُ فِيهَا أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ عَنْ الْكَذِبِ بِهِ نَوْعَ مِنْ اللُّطْفِ ، وَنَوْعٌ مِنْ التَّسَامُحِ ، بَلْ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ نوعًا مِنْ السَّعَادَةِ .