دراسة نفس-أدبية
لا يمكن لأي ناقد أو متحدث عن الشعر والشعراء في الأردن, وفي محافظة اربدتحديدا,أن يقفز عن أحمد الخطيب كشاعر أصدر تسعة عشر مؤلفا في الشعر,واثنين في النقد,وبقي ثلاث مجموعات شعرية, ومجموعتان في الرواية ومثلهما فيالنقد كلها على قائمة الانتظار.فقد راوح بين القصيدة والرواية والنقد الأدبي .. فمن الواضح أن باع الرجل طويل, وساقاه غارقتان في بحر الأدب لما فوق ركبتيه.
من يحدق في أي من قصائد الخطيب, يجد نفسه كمن يقف أمام جميلة من جميلات العرب, فيتصلب مشدوها أمام جميلة ممشوقة القوام ملثمة. لا تميط اللثام عن وجهها إلا لمحارمها, والمحارم عند الخطيب الخاصة من الأدباء والشعراء والمثقفين, وبقية خلق الله ليسوا من المحارم.وكأن الخطيب حين يكتب, يكتب لفئة محدودة من الناس, ما يسبب إعاقة في انتشار قصيدته وإن كانت صحيحة الجسم, معافاة النفس والفكر والبدن و نقية الفكرة, وصحيحة البدن خالية من الإعاقة,فالناس بطبعهم يسلكون الطرق المرصوفة المعبدة ويتجنبون الطرق الوعرة,بسبب عدم استعدادهم الكافي لبذل مجهود إضافي.الا أن ما يوسم قصائد الخطيب هذا الغلو في المفردات, وأحيانا تلك الشطحات التي تغوص في الماضي وتخرج من بحره بوصفة كثيرا ما تعكس شخصية شاعرنا, وتحاول رسم صور لملامح وجهة, بطريقة متدرجة ومستعصية على الفهم أحيانا, وكأنها ومضات متحركة تعكس تجربة شعرية إبداعية, تؤرخ أزمنة وأمكنة وشخوص كان لكل منها الأثر في تجربة الشاعر, وهي أقرب ما تكون إلى السهل الممتنع.
حين يحدق الناظر بعيني قصيدة الخطيب, ما يلبث قلبه إلا ويخفق لعينين موغلتين في الحور, تعكسا جمالا أخاذا.عربية تنطق أحيانا لهجة من لهجات العرب القديمة تحتاج إلى من يفككها.ملثمة حين ترمق الناظر بنظرة من نظراتها, يشعر المرموق أن في هاتين العينين سر دفين, يتوق السامع إلى مزيد من نغمات صوتها, مثلما يتوق إلى الإمعان في التحديق بمقلتيها, فلا يخفي طمعه في تذوق طعمها ,ومعرفة المزيد عن تفاصيلها, فيشعر بالعجز لأن العينين تنطقان بلغة غير واضحة المعالم, لكنهما لا تقولان كل شيء, ما يفسح المجال لخياله ليسرح ويمرح, ويحاول رسم الصورة التي يريد , فيعجز أيضا عن رسم الصورة الحقيقية , فإما أن ينقص أو يزيد , لأنها ترتدي لباسا لا يشف ,وتفاصيل وجهها ومفاتن قامتهاوجسمها مخفية تماما, بل محرمة على غير المحارم, فلا يستطيع تخيل مفاتنها والولوج في تفاصيلها إلا أهل الفصاحة والحصافة والبلاغة.
ذلكم هوعنوان قصيدة الخطيب حين يكتب, وذلكم هو مضمون قصيدته. تتمثل بفتاة صعبة المزاج, استوحت قساوة مزاجها ووعورته مما ورثته عن أبيها, فانعكست صورة الشاعر أحمد الخطيب على ملامح قصائده, وكأن كل منها تنطق بنفس الكلمات فتقول ” أنا لست كالأخريات. إن أردت فهمي عليك أن تتقن لغة الشعر أولا ثم تحاول,فإن نجحت فأنت من أهل الفصاحة وإلا فأعد المحاولة لعلك تهتدي إلى ما توحي به عيناي.”لكن الناس بشكل عام هم متلقين عاديين, سوادهم ليسوا شعراء أو أدباء, إلا أن ما يساعده أولئك المتبحرون باللغة وغيرهم ممن يجيدون التعامل معها.
تبدو مهمة قراءة ملامح عيني قصيدة الخطيب مهمة صعبة, فالمحدق في هاتين العينين يظن للوهلة الأولى أنه المعني بالأمر, وأن عيناها ترمقانه هو, وأحيانا يجد أن وراء ذلك شيء غير الذي ظن.وإذا استقر على رأي وحسبه هو المقصود أو اقترب, وجد نفسه أمام مهمة أخرى, تتطلب تركيز الخيال على تفاصيل الجسد, فيشطح خياله ويجول في كل الجهات. يبحث عن تفسير يتناسق مع سهام العينين ,فإن رأى نفسه منسجما وأستطاع المواءمة بين وقع السهام وتفاصيل الجسد, علم أنه من أهل الفصاحة والبلاغة والحصافة, وإلا سيجد نفسه مضطرا لمغادرة المكان, ويبحث عن مجتمع يتقن لغته, لتسهل عليه مهمة الفهم والتفاهم. أو يبحث عن خيار ثان, فيستعين بأهل الدراية أو بمن يجيدون قراءة الكف.
ما ذكرت هو نتيجة حتمية لانسجام الخطيب مع نفسه, فهو وإن تربى وترعرع في أحضان أربد التي تمتاز بجمالها الريفي, إلا أنه ذو شخصية وعرة, قليلة الكلام, قليلة الابتسام,صعبة غير متقلبة المزاج, ثابته ومستقرة, فانعكس ذلك على مفرداته فبدت صعبة المنال, وبدت نتاجاته تحتاج إلى جهد مضاعف للفهم والتحليل.
يميل الخطيب بشكل لافت إلى الغموض, فينتقى مفرداته التي تحتاج إلى جهد لتقع في موقعها, وإلى جهد آخر حين تستقر في مدارها, بالإضافة إلى ما ذكرناه أن سهامه فيها تركيز على هدف بعيد, غير واضح المعالم,لا يلاحظه من يقف على مدرجات المشهد الشعري الذي اتبعه الخطيب. فهو لا يجد نفسه مضطرا إلى الإمساك بيد المتلقي والعبور به إلى الضفة الأخرى من النهر. فكأنه يقول “على من يدخل بحري أن يجيد السباحة, وإلا فالجلوس على الشاطئ فيه متعة أيضا.” قال لي أستاذ جامعي بعد أن انتهيت من محاضرة لي في ملتقى إربد الثقافي ” أعجبت الخطيب ” في إشارة منه إلى مزاجه الصعب.
على المتلقي لما يكتب الخطيب أن يجتهد ليقف على الحقيقة. عليه أن يرتقي إلى المعنى لصعود السلم ليصل إلى المبتغى. فلا يقدم الشاعر الخطيب لقمة سائغة ليبتلعها المتلقي بسهولة ويسر,فهو كدارس للطب في بواكير حياته يكتب الوصفة, ويترك للصيدلاني مساحة ليشرح سبب وطريقة ووقت تناول الدواء.فجاءت قصائده تقول أن على المتلقي أن يبذل جهدا, عليه أن يقطع ويمضغ ويستعين بالماء ليساعده على البلع.
لنضمن الحيادية والموضوعية في الطرح نتناول عناوين بعض من إصداراته أخذناها عن غلاف كتاب ( كما أنت الآن كنت أنا )ونوردها كما هي : علنا نقف على حقيقتها ” أصابع ضالعة في الانتشار, بيروت 1985- حاجز الصوت , إربد 1990 – أنثى الريح, إربد 1991- اللهاث القتيل, عمان 1993 –مرايا الضرير, عمان 1994- لا يقل الكلام ,إربد 1996 – أرى أنه ليس في حلمه, إربد 1998 – عليك بمائي , بيروت 1999 – أيامه الأسبوع يكتب شمس غايته, دمشق .2001 – رفعت خيالي إلى سكرتي , عمان 2002- أيها الغيم يا صاحبي في المسيرة , عمان 2002 – أحوال الكتابة , عمان 2004 – وما زلت أمشي , دمشق 2006- حمى في جسد البحر, عمان 2007 – كأني لست من حرسي , الجزائر 2012.
لنتتبع عزيزي القارئ ما ورد من عناوين, وتسهيلا للتحليل نقوم بتحييد (أحوال الكتابة – وما زلت أمشي –و أرى أنه ليس في حلمه ) ثلاث عناوين من ثلاثة عشر تتسم بالوضوح, ويمكن أن نتوقع من خلالها ما سنقرأ, أما العشر المتبقية, فمن الصعب التكهن بما ستحتويه من أفكار أو مفردات, فنأخذ مثلا العنوان الأول ” أصابع ضالعة في الانتشار ” ونسأل أصابع من ؟ ,كيف للأصابع الضلوع في الانتشار دون صاحبها, والضلوع يعني الانخراط بقدر أعلى من المألوف؟ وكيف لها أن تنتشر في الإساس؟. فهو لم يرينا من,ولا كيف, ولا متى, ولا لماذا, أنا شخصيا أقرأ في العنوان أن المقصود هو أثر مكتوب بواسطة هذه الأصابع, كان له تأثيرا إما أن يكون سلبا أو أيجابا, فساهم هذا التأثير في أنتشار أثر هذه الأصابع أو بصمتها.
ونأخذ من وسط العناوين ” ارى أنه ليس في حلمه “. هذا العنوان يوحي بأنه سيعكس وجهة نظره وبالتالي سيسحب مزاجه على الشخصية التي سيكتب عنها, فكلمة أرى هي وجهة نظر. وكلمة حلمه تشير أن الشخص – موضوع القصيدة – هو في الأصل شخص حالم إلا أنه لسبب أو لآخر لا يعيش أحلامه.
ونأخذ العنوان الأخير من هذه السلسلة كمثال آخر ” كأني لست من حرسي ” فكلمة كأن توحي بعدم التيقن من الحدث أو من التوقع, ولماذا استخدام كأني إذا كان على يقين أن الأمر كما سيرد في القصيدة ؟ فكان يجب ان يحذف كلمة كأني ويصبح العنوان لست من حرسي , ليصبح العنوان أكثر ايحاء بالتيقن وأكثر طمأنينة للقارئ بدل من أن يترك للمتلقي يتوقع واحدة من نتيجتين, فإما أن يكون من حرسه أو لا يكون من حرسه , فعلى القارئ الدخول بكنه القصيدة ليصل إلى الحقيقة . والأصل في السلوك الاجتماعي, أن يكون المرء منسجما مع حرسه, وأن يكون قادرا على إصدار الأحكام بسهولة ويسر, أما أن يكون الحرس في واد والمحروس في واد آخر فهذا ليس من المألوف.
وحتى لا أكون انتقائيا, وسعيا لتحقيق الموضوعية في النقد, لم أحاول البحث عن القصائد اللاتي تؤيد ما ذهبت إليه, بل اخترت قصيدة من الصفحات الاخيرة من كل من الإصدارات الأربعة التي أهداني إياها والتي هي موضع الدراسة.
ديوان ” كما أنت الآن كنت أنا “الصادر عن دار الجنان للنشر والتوزيع عام 2011 . لم أستطع أن أفهم المشهد الذي واجهني حين نظرت إلى الجدار الذي يحيط ب” كما أنت الآن كنت أنا ” , كان الجدار صلبا لا يعرف الشفافية, فلم يكن بإمكاني تحليل ما ارتسم على الجدار, وجدت لوحة مبهمة, خلتها للوهلة الأولى قرية عفا عليها الزمن, ولم تكن كذلك حين غيرت رأيي فحسبتها بركانا يصعد من الأرض, فحاولت مزج الرأيين, واستخلصت أنها أرض سكنت في غابر الزمان, داهمتها البراكين فلم تعد صالحة للحياة. كأنها جدارية تعكس قسوة الزمان غابره وحاضره.
القصيدة قبل الأخيرة تحت عنوان(مخاتلة ). لا أخفي على القارئ الكريم , أنني لجأت إلى معجم المعاني لأستخرج معنى مخاتلة, فوجدتها اسم , مصدر خاتل, بمعنى مخادعة وأورد معجم المعاني مثالا ” خاتل الصياد فريسته :خدعها وغافلها ومشى قليلاوراءها لئلا تحس به, وخاتله غفلة أي خادعه وراوغه “. ذلكم المعنى, يحتم علينا أن نبحث في سطور القصيدة وما وراءها عن إجابات للأسئلة التالية : أين تكمن الخدعة؟ من يخدع من؟ هل الصياد يخدع الفريسة أم أن الفريسة تخدع الصياد؟ثم لماذا المخادعة أو المراوغة؟ إن استطعنا الإجابة على هذه الأسئلة نكون قد نجحنا وإلا فسنترك المعنى في بطن الخطيب.
حين يختار الخطيب هكذا عنوان, يريد أن يوصل واحدة من رسالتين أو كليهما. الأولى تعكس شخصيته الواثقة الممانعة كشاعر متمرس, يوظف ما لديه من مخزون لغوي ليرتقي إلى درجة أعلى من مستوى العديد من شعراء هذا الزمان, وأميل إلى تأييده في هذا الأمر – إن كان مقصده كذلك – وكأنه يريد أن يقول أن من يريد أن يكون شاعرا عليه أن يكون متميزا. أما الأمر الثاني فقد يكون قد رغب في فرز جمهوره, ليكون من طبقة المثقفين لغويا, وقد أستنتج في هذا المجال, أن الرجل شق طريقه في الحياة بصعوبة إلى أن وصل إلى ما وصل إليه , حتى أصبح ممن لا يستطيع أحد القفز عنهم في عالم الشعر الأردني الحديث, وحتى تمكن أيضا إنتاج هذا الكم الهائل من القصائد. فهو كصياد بذل جهدا كبيرا ومضنيا حتى تمكن من الإمساك بفريسته, فقبض عليها بقوة حتى لا تفلت من بين يديه لأنه يشعر بأنها ثمينة لا يجوز التهاون في رعايتها.
وحتى عنوان الديوان الذي سبق عنوان القصيدة, فيه مؤشر على أن شاعرنا يوصل رسالة مفادها أنه تجاوز منذ زمن مرحلة المراهقة الشعرية, وأنه يعتد بنفسه كواحد من رموز الشعر الحديث, في حين يسكن متلقيه الحي الذي سكنه قبل فترة من الزمان. وأقرأ في ذلك كذلك مسحة من الحنان مقترنة بالتحفيز مفادها, حاول وستصل لكنك تحتاج إلى أن تبذل جهدا يعتد به.
يقول الخطيب تحت عنوان “مخاتلة “:برئة واحدة يتنفس العصفور خبأ الموت في ريشه حالة الاوكسجين الموزع في الصحارى جابهته الفخاخ بالموت والخيمة المشردة الخفيضة عن سطح الرمل فانتظر الشاعرحبة القمح مزينة القشرة فسفورية اللمعان ذاهلة الحواشي قال للصقر: دورك ولم يدع مجالا للشك السيد في البيت الريفيرى الشجر المعصوب العينين فيمرض: أعرض عن هذا”
أرى القصيدة تتحدث عن الوهم وعلى الأغلب, إن الوهم الذي رسمته القصيدة, يتحدث العربية بطلاقة, يتمثل في جانب من جوانبه بالعصفور الفاشل في الحصول على حبة القمح حتى وإن تحول إلى صقر, لأن المكان ” كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا “. ويمثل الجانب الآخر البيئة المحيطة , بيئة قاحلة غير منتجة, حتى أشجارها تبدو مصفرة الوجه كالحة قاحلة , لا تعطي أكلها , مما يسبب امتعاضا لدى من يترقبها ويأمل منها الكثير. فالطبيعة خدعت عصافيرها والأشجار بدت معصوبة العينين, عاقة عقيمة, خيبت آمال زارعها, فلم تلبي حاجته, تماما كالشاعر الذي يتجلى, ويعصر فكره الف مرة, ليخرج عصارة هذا الفكر على شكل قصيدة , فتخدعه بيئته حين لا يجد من يستمع لأبياته فيعود إلى بيته متقوقعا يشكو عقوق البيئة التي لم تنجب من يقرأ شيئا مما كتب . وبالتالي على العصفور كما على زارع الشجر أن يعرض عن بيئة من أهم سماتها الخذلان. وعلى الشاعر أن يعرض عن الشعر , إن لم يكن هدفا لصيادي الكلمة والمعنى.
أما القصيدة الأخيرة من ” كما أنت الآن كنت أنا ” فقد عنونها بسؤال ( بنت من هذه الحيية ؟)يقول الخطيب: في الضحى, تتقلب الحييات على ناصية الشارع,يتسللن إلى إسمي, ويفركن الحصى, بنت من هذه الحيية؟بنت حاسرة الرأس,وبنت الذي يعقد الخمر في دالية اليوم , يا للمفارقة رأيتها تحيد عن صويحباتها, وتلمس الكهرباء, وتشرح للعين, أسباب انخفاضها إلى تربة القمح والزعفران,وهو الذي أنبت اسمي , على منقار طائر الضحى , وبعد لحظة من السكون, ووفرة من الظنون,ودهشة الرضا زرعت في طريقها أيائلي, وعدت أستحيي من الذي مضى.
قد يسلك القارئ الشارع الرئيس الذي يقود إلى الحي الذي تقطنه هذه الحيية التي لفتت نظره من بين صويحباتها, والحيية هنا, تعني من تفرط في الخجل, لكنه حتما سيضطر إلى السؤال حتى يحط رحاله على أبواب منزلها. فالخطيب نفسه لم يعرف من هيفي البداية,وهي أصلا لم تكن لوحدها , فالحييات يتعاقبن على بداية الشارع وقت الضحى . صبابا في مقتبل العمر, يبدين خجلا واضحا, والخجل المفرط في هذا السن كثيرا ما كان يقترن بضحكات خجولة غير جادة, تحمل رسالة مفادها ” أيها المار بنا, انتبه لنا … نحن هنا, بانتظار أن تبادر وترمقنا بنظرة”.
واستخدم الخطيب كلمة “يتسللن” إلى إسمي لتنسجم مع حالة الخجل التي اتسمن بها, فالتسلل لغة يعني الحركة البطيئة التي تتسم بالخوف والريبة وعدم الوضوح,لأنها حركة غير مشروعة بهدف الوقوف على أسم الذي يمر بهن بطريقة غير مباشرة في أغلب الأحيان, وغالبا ما يكون هذا المرور في الصباح مع بداية دوام المدارس. وقصد الخطيب القول أنهن ذكرن اسمه على استحياء شديد ليلتفت إليهن. وحين التفت, لفتت نظره تلك الحيية التي لا تضع غطاء على رأسها ,- وهي حالة نادرة في زمن كان فيه الخطيب في مقتبل العمر-. وبعد ذلك هربن بخجل, فاستخدم “يفركن الحصى” قاصدا أن الحصى كانت تفرك تحت أقدامهن ليشير إلى استعجالهن بالهروب. لكن تلك الحيية كانت سافرة الشعر والمفارقة هنا أنها أبنة الشيخ الذي يوثق عقود الزواج , وهي التي يفترض الا تكون سافرة الشعر . وقد أختصها شاعرنا بالحديث لأنها كانت تحيد عن صويحباتها لتميز نفسها, فيبدو أنها كانت تثير إعجاب شاعرنا وتحرك مشاعره بل تصعق قلبه أحيانا , لكنها وهو من شدة الخجل لا يطيلان النظر فكل منهما يشيح بنظره , وينظر إلى الارض خجلا, فكان لها الفضل في تحفيز فكره لأنها كانت ملهمة , وواحدة من أدوات الايحاء الشعري لديه. لكن الأمر أحتاج إلى حسم من الخطيب, فكأنه كان لا بد أن يتخذ موقفا وكان موقفه الفراق , لأنه يبدو أنهكان أكبر من سلوك كهذا , وقد كان يخجل من هكذا سلوك, فقرر إخافتها لينتهي الأمر هنا, وعبر عن ذلك بقوله ” وضعت في طريقها أيائلي ” فأوقف في المسافة بينهما ما يضطرها للابتعاد حين تتخيل أن الطريق اليه يحرسها وحش ذو قرون قد يكون مفترسا.
“هذه سبلي وأيامي”الصادر عن دار الجنان للنشر والتوزيع, مجلد يحتوي ما عدده مئة وتسعة قصائد طويلة توزعت على ثلاثة دواوين مجتمعة ” هذه سبلي وأيامي -2013 , في المتخيل أتخيل -2011 , وحداثة الماء – 2010 , تبرز الحاجة للتحليل من العناوين , فإذا اعتبرنا مجازا وقبل القراءة , أن الأول زجاجي شفاف سيشير إلى السيرة الذاتية للشاعر بالإضافة لطريقة قضائه للأيام التي عاشها بتفاصيلها وكيفية تعامله مع المحيط الاجتماعي والثقافي والموروث القيمي والأخلاقي والديني , بالإضافة للإرث التاريخي الذي تحمله الشاعر كفرد من أفراد الأمة والوطن , فإن العنوان الثاني والثالث يفتقدان الشفافية ,فغلف كل منهما بغلاف سميك يحفظ ما في داخلة, وإن سكب الماء على الثالث , لأنه يرى أنه يحتاج أن يبقى نديا غير متيبس.
ما أستطيع التكهن به هو أن الثاني سيحتوى تصوراته لما يدور حوله ولمستقبل كما يتخيلهما أو كما يريدهما هو وليس كما هما. أما الثالث فأجتهد حين أقول أنه يقصد ماء الحياة , هذا الماء الذي يجدد الحياة , فهو كما أظن سيحتوي على ما يراه الخطيب يسهم في بعث الحياة من جديد في محيطه بدوائره المختلفة. نختار من كل من هذه الدواوين الثلاثة القصيدة الأولى سعيا لتحقيق الموضوعية في النقد.
“أصفاهم هذا الولد ” هو عنوان القصيدة الأولى في “هذه سبلي وأيامي ” وهي قصيدة طويلة,نكتفي بالفقرة الأولى منها.
من يقرأ العنوان يظن للوهلة الأولى أن الخطيب سيتحدث بإسهاب عن ولد نشيط , خلوق , نظيف المظهر والجوهر.لكنه سرعان ما يكتشف حين يقرا الفقرة الأولى أنه يقف على قصة, تتحدث عن حدث معين, وعن نفسية الخطيب الرافضة للخنوع لامرأة , فهو يرفض ان يكون طبالا لها , وتأبى نفسه إلا أن يكون محايدا لا منحاز,وترفض تركيبته وتربيته أن يكون مرسالا لها, وليس ولدا. ليشير أنه ناضج متعفف, يبتعد عن الحركات الصبيانية حتى في سنيه المبكرة. يقول الخطيب :”لست منحازا لها ولا طبال امرأة على نهر الحياة لست ميالا إلى أعرافها الأولى ولست مدربا في ساحة المعنىلأشعل حربنا في الريح لست هناك مرسالا لمقهى في الحديقة أو ولد”
هكذا كان, لم نفلح في تحسس المعنى وبقى المعنى في بطن الخطيب, فلم نعرف ما جرى ولا من هي المرأة التي يتحدث عنها. أكملت قراءة القصيدة لعلي أعثر على المخاطب فلم أفلح, إلا أنني عثرت على ما يوحي إلى عناد في شخصيته حين يقول:
“أنا هكذا عدمي مرايا والنساء جميعهن ولدنني لرقي في ذاكرة الصلاة أنا هكذا حبر على بحر”
أنا هكذا مكررة, عبارة تشير إلى العناد , وكأنه يريد أن يقول أنه حر بسلوكه وأن تركيبته هكذا, ويريد أن لا يحاول أحد في تغيير نمط تفكيره أو نمط سلوكه. أما عبارة حبر على بحرفتشير أنه يبذل ما يستطيع, وله بصماته في هذا العالم الواسع المترامي الأطراف, وإنه لم يستطع التغيير, إلا أنه يسهم فيه ولو بالقليل.
أما القصيدة الأولى التي عنونها ب ” كائنات ” وهي من ديوان ” في المتخيل أتخيل ” والعنوان كائنات يوحي دون الولوج في القصيدة ,أن الموضوع سيكون عن كائنات حية أو ميتة, بشرية أو حيوانية أو نباتية. لكنني بعد الولوج في ثنايا القصيدة, وجدت أن شاعرنا لا يتحدث عن أي منها , فهو يقول:
“كأني سأجتزأ الآن من كل ديوان شعر قديم كلاما مصفى من الريح أنثى /ومن بائع الورد نحلا حميما /ومن سلة الذكريات منازل إرث قديم /كأني سأطلق صيدي الثمين إلى أول الذكريات/وأمشي إلى آخر البئر/ أحجز ما كان لي من خيوط /وأرشح منفى/ وأرسم فوق الفضاء المذهب جسرا عتيق المفاصل”
حتى اللحظة ليس للعنوان علاقة بالمحتوى,يبدأ قصيدته ب كأني, وكأني به في حالة من التفكير الهادئ الذي سيرسم خطة السير نحو المستقبل ويحدد مشروعه القادم. فهو سيستعين بالنقي من الشعر القديم ويتعامل مع الريح كأنثى والأنثى ولود متجدد, ويستعين بنحل هادئ من بائع الورد ليشير إلى تصالحه مع المحيط . فهو لا يريد للنحل الذي اختاره أن يلسع أحدا. وهو أيضا سيستعين بما أختزن في سلة ذكرياته من إرثه القديم, وكذلك يقول كأنه وهي كما أشرنا كلمة تشير إلى الرغبة في المحاولة والتجربة وربما التراجع,سينطلق من جديد ويكمل ما أنتج ليتابع مسيره لكنه يشير أنه -إذا قرر- سيدخل نفقا معتما أشار له بالبئر وأنه سيكمل مشواره حتى النهاية, ويعيش حالة اغتراب أشار لها بالمنفى لينطلق بعدها نحو فضاء غني وصفه بالمذهب ليخلط الماضي بالحاضر , ويخرج من عنق الزجاجة إلى فضاء جديد يحمل معه موروثه القديم ويتسلح بمساحات من الأمل , ليجعل من كل ما ذكر جسرا صلبا قويا وما عبارة عتيق المفاصل , إلا لتشير أن العتيق أكثر صلابة وأكثر قدرة على المقاومة من الحديث, ليستعين بهذا الجسر للوصول إلى الضفة الأخرى, التي يأمل أن يجد بها ضالته التي يبحث عنها.وبهذا تبرز نفسيته الواعدة المتأملة المتحدية الطموحة.
في الأشطر الأخيرة يتضح لنا أن شاعرنا, حين ذكر الكائنات قصد القصائد, فهو يقول:
“أمشي إلى آخر العمر/ حتى إذا زاول الشمس كف المغيب/ أعدت العقارب نحو الوراء وعاينت كل الذين رأوا كائنات القصائد صفا فصفا
في هذه المقاطع تفسير لاستخدام كلمة كأني في القصيدة, فقد برزت هنا احتمالية العودة إلى نقطة الصفر والانطلاق من جديد, إلا أن ذلك مشروط بالوصول لنهاية الطريق حتى يدرك منتهاه, والثاني مشروط بدراسة ومشروط بنتيجة أن النهاية ستكون وأن البداية الجديدة إن حصلت ستشمل عملية فرز لمن يكتب القصائد ولمن يقرأها.
أما القصيدة الأولى في ديوان “حداثة الماء ” والتي عنونها ب” وأتيت يسعفني هوى حراسي ” . أجتهد قبل القراءة فأقول أن الخطيب يرى نفسه مثقل بما لديه من حكايا , وأنه يريد أن يندفع بها إلى الأمام فيصطدم بما يعيق تقدمه , فتسعفه قصائده التي شبهها بالحراس فتساعده على تخطي مرحلة صعبة أراد حينئذ اجتيازها . آخذ من القصيدة مقطعها الأول.
“حملت أوزارا على مقاسيوأتيت يسعفني هوى حراسي فهجعتفي تدوين ريحي غفلة فشكا ظلام الليل من نبراسيهي في المطالع صورة أخرتها إذ جئت أرقب صورتي ومقاسي وفي المطالع بعد سرد غروبها وقيامة الأحلاف في انفاسي يا ليليا حبل الخطى ماذا ترى”
إذن كلمات القصيدة إلى حد ما, تميط اللثام عن عنوانها لكنها لا توضح المراد و فهو يوضح أنه يحمل من الأوزار ما يكفيه, ولم يعد بوسعه التحمل أكثر مما يحتمل, أو حمل أكثر مما يحمل, وليس هذا فحسب بل ساعده في هذا الحمل نتاجه , فتعب وهجع ليستريح, ما جعل ظلام الليل يشكو بقاءه, ويستحثه على متابعة الخطى بعد أن كان سأله عن وجهة نظره في متابعة المسير أو متابعة هجوعه بقصد محاكمة النفس والتخلص مما يعتري نفسه من أحاسيس تظهره وكأنه في صراع مع الذات. وتنتهي قصيدته وما زال السؤال قائما ينتظر الإجابة.
عندما خرجت من ديوان هذه سبلي وأيامي, قرأت على الوجه الآخر من المجلد ما كتبه الناقد العراقي د. هادي نهر عن شخصية الخطيب كشاعر,فأنقل الفقرة الاخيرة كما هي “إن الخطيب شاعر تدور به الازمان والأماكن وأشياء دفينة أخرى,إنسان يتحرك داخل الحزن .والشاعر الذي لم يكتب بدموع أحزانه نشك في شاعريته, والحزن والعدوانية نقيضان لا يلتقيان, لذلك كان الخطيب حتى في غضبه, وثورته, وتمرده أبعد ما يكون عن العدوان, إنه صوفي منشق انشقاقا صاخبا ومستفزا على نفسه أولا كما يفعل المتصوفون, ومنشق انشقاقا عصياعلى الفهم أحيانا لكن الخطيب يبقى على كل الأحوال قامة شعرية واضحة البصمات على الشعر الأردني المعاصر.
نختم دراستنا فنقول, أننا حتى بعد المرور بالعديد من قصائد الخطيب نثبت رأينا, أن بوح الخطيب في أغلبه مبهم, ومنه ما لا أحد يدرك مراميه إلا هو, فشعره غير صريح, وتبدو أشجار العنب التي وزعها على مساحات دواوينه مرتفعة , فبات عنبه بعيد المنال, يحتاج في أغلب الأحيان إلى سلم للحصول على قطف من قطوفه غير الدانية.