لصحيفة آفاق حرة
تسلمت مريم الغلاف الأصفر من يد ساعي البريد، فتحته بسرعة وأخرجت منه ورقة بيضاء كُتب عليها:
” الحضور ضروري الى مقر قيادة البحرية الملكية “.
سُرّٓت مريم بهذا الاستدعاء بعد طول فترة انتظار قاسية امتزجت فيها الأزمنة، واختلطت فيها الأفكار في ذهنها قبل تحولها إلى خيوط متشابكة لا تعرف بدايتها ولا نهايتها، تحملت فيها شرخ روحٍ ومعاناة نفسٍ انسل إليها اليأس الذي كاد يقذف بها من أعلى الحافة الى الاكتئاب.
مريم شابة في مقتبل العمر، يافعة، طموحة ، ساقتها الأقدار لتترعرع في أحضان أسرة متوسطة اليُسر. تكفلت بتربيتها منذ نعومة أظفارها امرأة تقية ورعة حُرِمٓت الخِلفة، فعوضها الإِله بطفلة تخلت عنها أُم لا حول لها ولا قوة، أم سقطت بين أنياب ذئب بشري لم يرحمها، فنفرها الزمان، وهزمتها الظروف لتسقط في الخطأ المحظور، وليتحمل الكائن الصغير والبريء وزر الكل، وزر الانا والهو، ووزر الذات والموضوع.
من مكتب القائد نُبئت مريم بقبولها، وتعيينها كبحارة ضمن طاقم باخرة تجارية مغربية لنقل المسافرين بين طنجة و أوروبا. سقط الخبر عليها كحلم يقظة أفقدها السيطرة على لوحة قيادة الذهن عندها، فتوقفت عيونها الواسعتان العسليتان وشُلت عن النظر، ليُرخص أوتوماتيكيا لخيالها بالاشتغال وإعداد العدة لإخراج مشهد سينمائي على الطريقة الهندية، حيث حلقت مريم فيه كبطلة خارقة فوق المحيط بأجنحة مستعارة، ولم تستفق إلا على صوت القائد وهو يقول:
– إلتحقي بمقر عملك وفقك الله.
رغم اشتغالها على متن الباخرة ، وبُعْدها عن اليابسة ، راكمت الذاكرة لدى مريم كل الترسبات الطفولية على سطح قلب مكسور تناثرت شظاياه في كل اتجاه كأنه لعبة صعبة لتركيب الصور(puzzle ). وفي محاولة منها لتجاوز السر المكنون بداخلها، كانت تحول صوت موج البحر الي موسيقى تنشر الرحمة والطمأنينة على محط كل قدم بالسفينة، فعُرِفت بخفة ظلها، وبطيبة سريرتها، وبجديتها في العمل. فأحبها كل من تعرف عليها.
وكلما أضناها العمل واشتاقت إلى الحاجة خديجة، المرأة التي غرست فيها كومة الحنان، ولقحت معنوياتها المهزوزة بالطاقة الإيجابية لمواجهة متغيرات المجتمع وظروفه القاسية، تترك السفينة برخصة قيادية لتتوجه إلى مسقط رأسها. استمرت على حالها هذا، لتكون مفاجأتها أعظم بظهور أمها البيولوجية التي كانت سبب تعاستها. جاءت تتوسل ابنتها المكلومة أن تغفر لها وتستبدل الصفحة السوداء من تاريخها بأخرى بيضاء. انتصبت أمامها وهي تتباكى وتبكي حسرتها على فقدان فلذة كبدها. ومريم واقفة تنظر باستغراب لهذا الموقف ولم ينتابها إي شعور، “ففاقد الشيء لا يعطيه”، لا ترى إلا شفاه تتحرك. ولاتسمع إلا طقطقات على إيقاعات إشارات المورس التي لم تستطع فك شفراتها. ثم نطقت مريم وقالت:
– “البكاء وراء الميت خسارة”،وأنا ذلك الميت الذي دُفن من غير إذنه بعد أن مات خنقا بشد الأوداج، وجُرد من حقوقه الإنسانية، والآن جئتِ تنبشين القبر بعد أن صار الجسد رفاتا، وعاش حلكة الظلمات و حياة البرزخ.
شهقت الأم شهقة وعبرات الندم تسيل على خدها، وملامح البؤس تظهر على وجهها، فقالت:
– ارحميني ، انتشليني من عذابي الذي انقضى معه مخزون صبري على فراقك، فحولني الى غريبة أصابها النسيان، حملها المجتمع وزر غلطة غير مقصودة .
حوار صارت كلماته وقود أجج غليان البركان الداخلي الدفين لدى مريم ،كلماته باحت بما وَراهُ الزمن وجعلها تتخبط في الخلط الأزلي بين الحلال والحرام لتتخلى عن الفرحة بأحلامها وأمانيها، وتنسلخ عن باقي أقرانها من بني جلدتها، وتفقد الهوية ككائن موجود فاعل ومنفعل في محيط طبيعي يسمح بكرامة العيش.
في صمت تحرقت مريم، ثم انسلت مطأطئة الرأس، مهزومة القوى، دون أن تلتفت وهي تحمل معها شهادة ميلاد مخرومة بجرح لم يندمل بعد.