لصحيفة آفاق حرة
*************
نَزَلْتُ من الباصَ، تَوَجَّهْتُ إلى بيتي في آخِرِ الشارعِ، نَظَرْتُ إلى الساعَة، إنَّها تُشيرُ إلى السّاعَةِ الثالثة. تأكَّدْتُ أنَّي لم أتَأَخَّر على مَوْعِدِ الغداء. شَدَّ انتباهَي هَرْجٌ في بَقالَةِ الحَيِّ. الناسُ تَتَدافَعُ أمامَها بِعُنْفٍ وإصرار. قَرَصَ المَشْهَدُ غيرُ المألوفِ حاسَّةَ الفُضولِ لدي، فاقْتَرَبْتُ من البَقّالة، رأيتُ أحَدَهُمْ يَنْفُذُ من بينَ المُتَدافِعين وفي يَدْهِ عُبْوَةٌ صَغيرَةٌ زَيْتِيَّة اللَّونِ ضَمَّها إلى صَدْرِه كما يُضَمُّ طِفْلٌ رَضيع، وعلاماتُ الرِّضا والطُّمَأْنينَةِ تَفْتَرِشُ وَجْهَهُ. أمْسَكْتُ بذراعِهِ مُسْتَفْسِرًا عما يَجْري في الداخِل، فأجابَني وعيناهُ تَرقُصانِ فرحًا: “إنهَّم يَبيعونَ الهواءَ المُقَدَّس في عُبواتٍ بلاستيكية. تمَّ استيرادُها للتوِّ من الأراضي المُقَدَّسة”، ورَفَعَ العُبوَةً مُؤَكِّدًا على صِدْق كَلامِهِ، ليُتابَعَ مُعَدِّدًا مَناقِبَ هذا الهواء واحِدَةً تلوَ الأُخرى، فهو يَمُدُّ الجِسْمَ بالشَّباب والحيويَّة، يَقي الإنسانَ من مرضِ الزَّهايمر، يُداوي داءَ المَفاصِل، يُعالِجُ الكثيرَ من حالات السَّرطان، وفوقَ هذا كُلِّهِ يُستَخْدَمُ كمُحَفِّزٍ للقُدُراتِ الجِنْسيَّة.
ارتَسَمَتْ أَمارات الدَّهْشَة على وجهي وقدَ أطاحَ ما سَمِعْتُهُ بِصَوابِ عَقْلي. أصواتُ المُتَدافِعين تَتَدَفَّقُ في رأسي. الكُّل يصرُخُ. رنَّتْ عِبارَةٌ لأحد المُتدافعين في طَبْلَةِ أذني وهو يُنادي أحَدَ العامِلينَ: “أرجوك أعطني هذا الهواء. أرجوك”. قفزَ إلى ذِهْني عنوانٌ مُشابِهٌ لإحدى قِصَصِ إحسان عبدالقدوس “أرجوك أعطني هذا الدَّواء”. تساءَلتُ في ذاتي إن كانَ ذلك الرَّجُل قد قَرَأ القِصَّةَ يومًا فاستَلْهَمَ من عنوانِها صَرْخَةً للنَّجاة أم أنَّها مُجَرَّدُ صدفةٍ عابِرَةٍ أخْرَجَها للعَلَن احتياجٌ جامِحٌ في حياتِهِ يُشابِهُ احتياجَ بَطَلَةٍ القِصَّةِ لمن يُشْبِعُ شَبَقًا جِنْسيٍّا مُلْتَهِبًا في جَسَدِها لا يَنْطَفِىء.
لم أطُل التفكيرَ في ما جَرى أمامي، وظَنَنْتُهُ مَوْقِفًا طارِئًا حتى أتاني ما يَنْقُضُ هذا الظَّنَّ من جُذورِهِ. ففي اليوم التالي كانت يافِطاتُ الإعلانات الشاخِصَةُ للأعلى والمنتشِرَةُ في أرجاءِ المَدينةِ تَعُجُّ بِصُوَرِ عُبْوَةِ الهواء المُقَدَّس، حتى لا يَكادُ شارِعٌ يَخْلو منها.
في اليوم التالي بَدَأت إعلاناتُ السِّلعةِ المُقَدَّسة تَغزو أوراقَ الصُّحُفُ وتَحْتَلُ مساحَةً كبيرةً منها. لكنَّ الإعلان الأغْرَبَ هو ما تم كِتابَتُهُ بِبُنْطٍ عَريض تحتَ صورَةٍ مُضَخَّمَةٍ للعُبْوَةِ “أنفاسٌ قليلةٌ تَمْنَحُكَ العُمْرَ المَديد”.
في اليوم التالي له انْتَقَلَتْ العَدْوى إلى التِّلْفاز ، وأصبحتْ لا تَكادُ تَمُرُ ثانيةٌ في أيِّ بَرنامجٍ دون أن يُزَجَّ بإعلانٍ فيه للوافِدِ الجديدِ على السوق المَحَلّي، حتى غَدَتْ مُشاهَدُةُ البَرامِجِ أمْرًا يُثيرُ الاشمئزازَ ويَبْعَثُ القَتامَ في الحَياة.
في غُضون ثَمانٍ وأربعينَ ساعَةٍ نَفَدَتْ الدُّفْعَةُ الأولى من الأسواق، دَبَّ الهَلَعُ بين الناس، نَزلوا إلى الشَّوارِع، اتْهَمَوا السُّلْطاتِ بِمَنْعِهِ من التَّداول، فلم يكنْ من المُوَرِّد الفَطِن إلا أنْ استَغَلَّ الحَدَثَ ورَفَدَ السّوقَ بدُفْعَةٍ أُخْرى، فيما تَهَيَّأَ للجُمْهورِ أنَّ صُراخَهُمْ قد أَثْمَرَ في مُخاطَبَةِ ضَميرِ المسؤولين.
أصبحَ الحَديثُ عن ذلك الهواءَ المُعَبَّأ شُغْلَ الناسِ في كُلِّ مَكانٍ: في المَقْهى، العَمَل، الباص، المولات، الشارع، صالونات الحِلاقة، النَّدوات الثَّقافية. وأصبحَ في الوَقْتِ نفسهِ شَريكًا لي في الأحلامِ والكَوابيس إلى أنْ ضِقْتُ ذَرْعًا به، وقادَتْني الحاجَةُ للذَّهابِ إلى عيادَةِ الطَبيبِ النَفْسِيِّ المُجاوِرِ لمَسْكَني طَمَعًا بالعِلاج لأتفاجَأَ حينَها بحوارٍ مفتوحٍ بينَهُ وبينَ السكرتيرة لا يَخْلو من الغْنْجِ، والتَلَوّي، والقَهْقَهة، وتَلامُس الأصابِع، وضَرْبِ الأكُف، إلى الدَرجَةِ التي لم يلحَظْ معها دُخولي إلى المَكان، حِوارٍ جَوْهَرُهُ ما يُقال عن فاعِلِيَّة الهَواء المُقَدَّس في علاجِ الأعصاب، وتَرويض النُّفوس من وَطْأَةِ الأمراضِ النَّفْسية، وبأنَّهُ يُفَكِّرُ جَدِّيًا بالاستعانَةِ به كعِلاجٍ في عِيادَتِه. فلم يَكُنْ مني آنَذاك إلا أنْ لُذْتُ بالفَرار قبلَ أن يَنْفَكَّ سِحْرُ السِّكِرْتيرة عن عيون الطَّبيب، ويُحِسَّ بوُجودي في الجِوار.
أصابَني اشبَاكي المُسْتَمر مع هذا الحَدَث بِصَدْمَةٍ شديدةٍ في المُجْتَمَع، وجَعَلَني أرَدِّدُ أسئلةً شتى وبصوتٍ مسموع: “أَتُراني أخطأتُ؟، ألا يُمْكن للهواء الذين يسمّونَهُ “مُقَدَّسًا” أنْ يَقَهْرَ مَرَضًا أرْهَبَ العالم مثلَ الإيدز في سُوَيْعات؟”. شَعَرْتُ أني أشاركُ في الجريمة بمجرَّدِ طَرْحِ مثل هذه الأسئلة، فقمتُ بنفي ما ردَّدْتُ على الفور بأسئلة مُناقضَةٍ: “ما هذا الهراء؟ أيمُكْنُ لهذا الحَدِّ أن نَتَعَلَّقَ بالوَهْم وأنْ نُلْبِسَهُ ثوبَ الفَضيلة؟ أيمكنُ لنا أن ندخلَ سجنَ الجهل طائعين فيما الابتسامةُ تعتلى وُجوهَنا؟”. وبقيتُ أعيدُ شريطَ الأسئلةِ كلَّ يومٍ بتناقُضاتِه وكأني شخصٌ يُعاني الفِصام، وذلك حتى أتى النَّبَاُ السَّعيد بعدَ أسبوعين،”احتقانٌ في الشارع بسببِ عدم نَجاعَة الهواءِ المقدَّس”، خَبَرٌ صغيرٌ نُشِر في قاعِ الصَّحيفةَ، ارتَدَّ في اليوم التالي إلى مانْشيتٍّ كبيرٍ يَتَصَدَّر الصفحةَ الأولى بعدَ أن خابَ أَمَلُهُم في الهواء.
تَظاهَرَ الألوفُ في الشوارع، طالبوا بِرَدِّ أموالِهِم المسروقة، هتفوا من أجل اعتقالِ المُوَرِّد ومُحاسَبَةِ من سمحوا لهذه السِّلْعَةِ أن تَمُرَّ في أجواءِ البلاد وتَجِدَ طَريقًا لها إلى السوق. أخَذت التظاهراتُ بالتَّوَسُّع، ووَجَدت القنواتُ الفضائية فتحَ نَدواتٍ حِواريَّةٍ جدليةٍ حول الموضوع وَجْبَةً دَسِمَةً لا تُعَوَّض.
العاصِمةُ تَغلي، الريفُ يشْتَعِل، الطُّرُقاتُ مقفلة، الاقتصاد مَشْلول. وأمامَ ذلك لم تَجِد المسؤولونَ مَفَرًّا من الاستجابةِ لمطالب المواطنين، فقاموا باستدعاء المُوَرِّد، وحَبْسِهِ قيدَ التَّحْقيق.
هَدَأ الشارعُ واستَكانَ لما رأى ذلك المورد ماثِلًا خلفَ القضبان، وبَدَأ الفُتورُ يتَسَرَّبُ إلى دَواخِلِهم مع مُرورِ الوقت، والانطفاءُ يَكْسو وُجوهَم. خاصةً مع انقِطاعِ أخبارِ التَّحقيقِ، وإصدار المُدَّغي العام أمْرًا للصُّحف وكافة وسائل الإعلام بعدمِ النَّشْر في الموضوع خوفًا من تأثيرِ الرأي العام على مَجرى التَّحقيق.
بلا مُبَرِّرٍ مُعْلن ماتَت القَضِيَّة. لم يعرفْ أحدٌ إلى أي ناصيةٍ مالَ التَّحقيق. إلا أنَّ تصريحًا رسميًّا مُقْتَضضبًا أفادَ بأن أموالَ المواطنين لم يُرْغِمُهُم أحَدٌ على تبديدها بالإكراه، وأن الحُكومةَ لا نِيَّة لديها لتَحَمُّلِ أيِّ تَكاليف في الموضوع.
مع توالي الشُّهورِ نَسَيَ الناسُ القِصَّة بالكامِل، وقلبوا صفحةَ الحياة، أكملوا مَسيرتَهُم فيها وكأنَّ شيئًا لم يكن. لم يَعُدْ أحدٌ يذكرُ ما حَصَلَ ولو عن طريقِ الخطأ. وأنا أيضًا كِدْتُ أنسى ما جرى كالآخرين، لولا ما طالعتنا به الصُّحف في ذلك اليومِ الماطر عن نَبَأِ حُصول تَغييرٍ وزاري مُفاجئ.
بتكاسُلٍ تناوَلتُ الصَّحيفةَ من الخارج صَباحَ ذلك اليوم، جلستُ على الطاوِلَةِ وأنا أفركُ عينيَّ من شدَّة النُّعاس، إلا أن خبر التغيير الوزاري في صدرِ الصفحةِ الأولى شَدَّني، وجعلني أُحِدِّق أكثرَ في تفاصيل الخَبر. استوقَفني اسم بين أسماء الوزراء الجُدُد. قُمْتُ بتقليبِ الصفحاتِ كالمَمْسوسِ كي أصِلَ إلى تفصيلِ الخبر في الصفحاتِ الداخلية، وهالني ما رأيت. لقد رأيتُ صورةَ ذلك الموردِ تَتَبَوَّاُ مَكانًا لافِتًا من الصَّفْحَة، وتَحْتَها نبذَةٌ عنه وعن إنجازاته. لم تستوقفني أيُّ عِبارةٍ مما قرأت سوى عبارةٍ واحدةٍ وردت في آخر الخبر، وقد شعرتُ عندَ قراءتِها بِخِنْجَرٍ يُغْرَزُ في صدري. تلك العِبارة كانت ” ولعلَّ من أهم أسباب اختياره لهذا المنصبِ ما يتمتَّعُ به من قُدرة كبيرة في مجال التَّسويقِ والابتكار”.
الصَّدْمَةُ أصابتني بشلَلٍ مُؤقَّت. إلا أنني وبعد تَلاشي حالةِ الذُّهول، أخَذْتُ أعيدُ استذكارَ كلمةِ “الابتكار” في فَمي، حتى انتهيتُ بِوَصْلَةٍ من الضَّحك لم أستَطِعْ تَلافيها، وأنا أفَكِّرُ كيفَ انقلَبَتْ مَفاهيمُ العالمِ، وأصبحَ الخِداعُ معادِلًا للابتكار.