أحتل غرفتي منذ زمن عقيم
حتى صرت محتلة ثقيلة القلب ..
غرفتي التي تبدو ككهف لشاعر صعلوك
بتلك النصوص المتناثرة علي الجدران
تبدو كتعويذة لفك النحس
هكذا يقولون الزوار ثقلاء الدم
لا بأس بهذا الهراء!
أيضا لا أهتم بفكرة دهان الغرفة،
هنا شق بين ضلوعي
امتد بعرض الحوائط
من هذا الضلع الأيمن
إلي هذا الضلع الأيسر بجانب الباب
الباب الذي لا يكف عن الصرير
كلما لامسته
حتي المقبض ملّ مصافحتي
وتسمّر بحضن الصدأ انخلع في يدي
كما لو تخلع زوجة عشرينية ملابسها لزوجها الجد
_الباب بيشتكي منكِ_
هكذا قالت أمي بتجهّم
هذه الجملة حفظتها .
أنا كمرآتى
أزيل الأقنعة عن الوجوه
الكل يحذر مني ويتجنبني
أكشف ألوان الضحك
أكره جداً جداً الضحكة الصفراء
أعبس بوجه مرآتي حين تشير لي عن تجعيدة جديدة !
كثيرا ما تختبىء مني ملاءات السرير بدولاب أمي،
تمتعض حين أثبّتها!
قائلة ..
لم أصبح يوما بساط علاء الدين!!
الأطراف أتعبها وخز الدبابيس
حتى أنها تحالفت ضدي مع العثة
لأكل ملابسي
للتو وأنا أحمل كنزتي من على شباك السرير قالت ليّ
السرير حمّلني رسالة..
إذا كنت تريدين اللجوء إليه
عليك ان تخلعي قماط الوجع وقميص الهم
وكفي عن النحيب والعويل ..
وكفي عن بلل الوسائد ..
ثمة عنكبوت خلف الستارة يتأفف مني
يتمتم بحنق
متى تحل عن أنفاسنا هذي وترحل؟
هاتان نملتان بالقرب من قدمي تتحدثان عني
إحداهما تحكي للأخري عني
وعن حياتي الأولي
حكت في عجالة
تسير وهي مشرئبة ليّ
حملقت لها فجأة ..فتلعثمت !
قالت للثانية اسرعي قبل ما تجهش بالبكاء هذي المجنونة
فيجرفنا الفيضان لأقصي وهدة بأرضية الغرفة..
وهذا الشباك الذي كلما تذكرته
يذكّرني بأني أنا المحتلة
محتلة تحت حكم الظروف
محاطة بقواعد القمع
ذكور العبث تتسكع بكل مكان
أما أنا وهن الشاعرات إذا ذكرنا حمّالة الصدر بالقصيد
نتعرض للرجم وإذا أشرنا إلي نهودنا لا خلاص من الوأد!!
ها أنا ذكرت الأولي وأشرت إلي الثانية؛
سوف أختبيء!
حتى النوم يمتعض هنا!
كل شيء بالغرفة كذلك
غير الأرق والشجن
والمبالاة رغما عن الوحدة
هنا بين الأربع حيطان
أجد المهرب االوحيد
من أنف هذا العالم وزيفه الذي يؤطّرني..
حتى إذا شعرت يوما بأني أختنق
وأن السقف كاد يقع فوق رأسي.
سعاد مهاب الوقوف على نص المكان في قصيدة الشاعرة المصرية الصديقة Souad Mohab
تكمن المسألة الشعرية عند سعاد على مهارة السرد والتحقيق او الاكتناز والإدماج وهو تكثيف الدلالة وضغطها في عبارة تتسم بالاقتضاب الشكلي والإنفساح المعنوي الامر الذي يدخل القارئ في أتون الوهج الإبداعي من خلال النص الشعري /السردي المفتوح وذلك عبر الإحتفال باللغة وتفجير فضاءاتها المجازية والتأويلية، فسعاد مهاب ترسم المشهد الشعري السردي بطريقة ذكية ومؤثرة واخضاع البناء الشعري للحالة النفسية الاحتلالية للذات الشاعرة ومقتضيات عالمها الشعري والشعوري.
تشتغل سعاد على سردية المكان وسردية الشخص (الانا والٱخر) غرفة بكل اركانها من حائط وجدران وسقف وشبابيك وباب وقفل ومقبض ودهان وملابس وسرير وملاءات ومرآة وما فيها من شخوص حيٌة ومؤنسنة من عنكبوت ونمل وانعكساس هذا المكان ومخلوقاته على فضاء ووجدان الراوي وتعالقاته مع الام والزوجة العشرينية والعالم الخارجي بكل زيفه وفساده وما يسبب لها من ارق واختناق ووجع …تشتغل كاتبتنا مع فضاءات عوالمها بحرفية وتستنطقها وتحاورها عبر تيار الوعي وتضفي حركة على توتر الحدث والحركة الشعرية والسير وفق رؤيتها الساخرة من هذا العالم الظالم ووفق حسابات ان الزمن في حالة من الصراع والوحدة فالحياة في هذا الكهف المكاني مفقودة فيه الراحة والحياة وكل ما فيه يشكل متاهة بل حتى نوافذه المشرعة على الخارج متآمرة مع الداخل في القسوة فلا قيمة معنوية او إنسانية فيه بل قيمته في الحالة الشعورية والوجدانية للكاتبة.
شاعرتنا مهاب تشتغل قبل كل شيء على شعرية المكان المغلق والمفتوح على عالم الخيبة حيث الواقع المصيري والمؤلم وعدم الاحساس بالأمان .
ان المكان في السرد الشعري الذاتي (الانا والآخر) احد الاركان الرئيسية التي تقوم عليها العملية السردية حدث وشخصية وزمنا والزمن هنا تصوير سينمائي مولودرامي للحالة المشهدية التي سردتها الكاتبة والعاكسة والمجسدة لحركة العالم وفاعليته،
عبر نمو حسي مؤثر ومن خلال الايجاز والتركيز والإيحاء وعبر انتقاء قاموس لغوي خصب ومتنوع وشحن مفرداتها بالدلالات والتاويلات المشتبكة وانعكساس لمعاناتها الفردية والعامة واهتمامها على طريقة الروائيين بالتفاصيل وحساسية الحياة اليومية من خلال اسلوب حكائي وتشويقي يشد القارئ ويتمنى ان لا تنتهي ولا تنتهي بما تمنيت في نهاية النص ، نحن هنا امام كاتبة عضوية وساخرة. من هذا المجتمع الذكوري الذي يلاحق المرأة ويحاكمها على انوثتها وانسانيتها
شاعرة تحترم بما اوصلته من رسالة وصرخة مدوية في وجه العالم المزيف، كتبته بلغة رمزية وبصور وايحاءات وبشاعرية تلامس شغاف القلوب وتستفز براكين الشعور هي ترسم الكلمات بمداد الاحساس والوجع وذلك لتفجير طاقات اللغة السردية الشاعرة ولتتناغم الروح وتندغم مع اللحظة الشعرية ويعزف قلمها المحترق على اوتار الشجن وتبلغنا رسالة بالغة الاحساس والعاطفة وبرمزية معبرة وموحية تترك الأبواب مفتوحة للإسقاط والتأويل وبإنسيابية عذبة تتارجح بين الواقع والخيال لتبهرنا حكاية سعاد وتستفز حواسنا وضمائرنا ونسغ أعصابنا لتوصلنا الى دلالاتها واستكشاف المسكوت عنه من اوجاعها وأوجاع العالم العربي والانساني وذلك عبر اسلوب السهل الممتنع وعبر مشاعر مضغوطة حد الإنفجار
يا لك من فنانة تشق طريقها الى النص الروائي الطويل.. ويا لك من رسامة ومصورة بنورامية بعدة عدسات سلطت الضوء على الحدث والشخص والزمن والمكان بحرفية عالية وبلغة القلب والروح والوجدان والإحساس لإيصال رسالة بليغة وقوية كتبت من حشاشة صدرها ومن عمق واقعها الذي انتهى الى ذروة الانكسار
نعم هؤلاء المبدعون الذين ينتجون تجربة ابداعية تصور الذات والعالم والواقع بكيمياء الشعر ،الكتابة الإبداعية كالحلم لا يمكن التحكم فيه، فهو يمزق تمسكنا بالتابوهات حيث يخرج النقيض من النقيض واللغة الشاعرة تخلق عالمها الخاص بفن الكتابة الإبداعية التي تمنحنا شعورا بالبهجة والسعادة والدهشة وربما بالخوف او الرعب هي وثيقة الصلة بتلك الحالات النفسية الحدّية، فشاعرتنا كاتبة تولد تمردا ولكن كل حركة تمرد تستدعي ضمنيا وجود قيمة ورسالة سعاد مهاب ذات قيمة خالص تمنياتي لك بمزيد من الإبداع أيتها الصغيرة سننا والكبيرة جدا بفعل وعيك وموهبتك وابداعك