لصحيفة آفاق حرة:
_______________
المحرر الثقافي
إضاءة على رواية (رصاصة- للكاتب والسيناريست السوري فؤاد حميرة)
بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد
رواية “رصاصة” للكاتب والسيناريست السوري المخضرم فؤاد حميرة .. ابتدأت تساؤلات انفجارية عن معنى الذات.. صراع الذوات في رواية الرصاصة. التي كتبت بلغة كابوسية عن شخصية متشظية لشخصيات سائخة داخل شخصية، توزعت رغباتها وحياتها بين هذه الشخصيات الثلاث، شخصية الأستاذ الجامعي، وكاتب السيناريو، والفلاح الطبب البسيط ابن الأرض.
فيض التساؤلات من أول الرواية حتى آخرها لم يتوقف، إلا ليثور من جديد على مساحات تتسع لآفاق فسيحة.
“قل لي.. هل أنت أنت؟ أمتأكد من أنكَ أنتَ؟ قل لي: كيف تعرف الإجابة؟ ما هي الدلائل على أنك أنت فعلا؟ هل بحثت عن نفسك؟.. أين بحثت؟.. وهل وجدتها؟.. كيف كانت؟.. هل تستطيع وصفك؟.. هل أنت قادر على تحديد سماتك وأوصافك؟”.
تطرح الرواية هذه الأسئلة وغيرها دون أن يكون لديها القدرة على تقديم إجابات مقنعة؛ فالراوية غير مطالبة بتقديم الإجابات، وإنما بتحريض مصنع الأسئلة لديك، وفتح مساحات من الخيارات المتشعبة حول وجودك وكينونتك.. حين تنظر في المرآة قد لن تجد الشخص الذي تريد، لن تجد أنت، ستجد الآخرين في المرآة.. الآخر الذي أعطاك اسم وتاريخ ميلادك وجنسيتك ومكان ولادتك، ثم منحك (فرض عليك ربما) أفكارك وانفعالاتك ومشاعرك ومكانتك ثم عملك، وسلوكياتك فأين أنت؟.. كيف تستطيع العثور عليك وسط زحام الأسئلة؟.
– “انظر أيها العالم الكلب ماذا فعلت بنا الحرب، كم صرنا مخيفين وقساة، مسوخاً ومكتملين، موجوعين ومنكوبين، جرحى وموتى، نبلاء وآلهة، قلوباً تمشي على قدمين، وأرواحاً تشيل الخوف والمسوخية والوجع والجراح عن البشر!”.
الحبكة الدرامية لا تقتصر على صراع الذوات الروائية، بل تمتد لتتحول إلى حلقات ونقاشات مفتوحة في قاعة محاضرات. وكأن الكاتب أشار بدلالة واضحة إلى الذات تلني كان يبحث عنها من خلال بطله المتشظي الذي كان يعيش في ضياع باحثا عن ذاته الحقيقة. أخبرنا في آخر الرواية: بأن الأستاذ الجامعي هو الشخصية الحقيقية في ذات البطل، كما أن هناك إشارة ذكية من الكاتب “فؤاد حميرة”: بأن الرواية في مجملها ما هي إلا محاضرة لطلبة جامعيين، يبدو أنهم في قسم علم النفس التربوي. وبعد انتهاء المحاضرة انفتح باب النقاش المهمّ مع الأستاذ، ليستمع إلى ملاحظات طلبته، التي ستكون رافدا مهما في تسويق فكرة الرواية على محمل تبرير منطقي معقول.
كما تبين أن زمن حكاية الرواية. لا يتعدى زمن إلقاء الأستاذ لمحاضرته الجامعية بحدود الساعتين إلى الساعتين والنصف تقريبا، فضاء الرواية المكاني هو قاعة صف جامعية. بينما تفرعت وتشعبت الرواية على مسافة طويلة كما يبدو من فترة البحث عن الذات، واستغرقت زمانا، غير ملحوظ في نسيج الرواية بشكل ظاهر، وكذلك انسحب ذلك على المكان. واختفيا لصالح السرد الروائي، بينما غفل البطل عن ذاته، في متاهات وهلوسات؛ فقد غفل عن محيطه المكاني، وعن الساعة الزمنية على مدار كامل الحدث الروائي.
وجاءت حقيقة عنوان الرواية مخاتلا، حيث لم تظهر كلمة رصاصة ولا مسدس أو بندقية، ويبدو انها رصاصة الرحمة التي فقأت عين الغموض فب البحث عن الذات.
يعرج الكاتب على تقنيات مسرح حيث تعدد الذوات وصراعها مع المؤلف الذي يقوم بكسر الإبهام والاعلان عن نفسه ككاتب سيناريو، ويبدأ صراع جديد في وضع سيناريوهات تسعى لتفسير حالته الملتبسة بين ثنائيات مثل “الحياة والموت” و”الحلم والواقع” و”الرضا والتذمر”، مُتذرِّعًا بالفلسفة كقناع شفيف قادر على احتواء أسئلة تراوغ القناعات الجاهزة وتطعنها في مقتل .
– الأجواء الكافكاوية التي بدأت بها الرواية تعتبر سمة عابرة إذا توغلنا أكثر في تقنيات السيناريو وحالة النوستالجيا، ولعبة الضمائر المدمجة، والمتعددة وهي لعبة جديدة . بقدر ما هي مرهقة في استيعابها، إلا أنها تحمل تجديدا في السرد وثورة في اللغة . كما لا يخلو العمل من مخاتلة تتمثل في عنوانه الذي ليس له حضور فاعل داخل النص.
يخوض الكاتب السوري فؤاد حميرة مغامرة فنية في هذه الرواية.
فهو ينطلق من ذات مشتتة، لا تعرف أبعادها الروحية أو النفسية فضلا عن الجسدية، ليطرح ما يسميه “سوق الأسئلة”. وهي لعبة فلسفية محببة تبدأ بمعطيات واضحة إلا أنها لا تنتهي بالضرورة إلى نتائج محددة .بل سرعان ما تنبثق ذوات أخرى، تحفر عميقا في ذاكرة البشر، تصدمهم بأسئلة بديهية لدرجة مدهشة. عن الميلاد والحياة والموت والحب والكراهية والأسرة والمجتمع والدولة.
بأسلوب أقرب للتداعي الحر، وتقنيات فنية ولغوية متعددة، تثير الخيال وتصنع جدلا بين النص والمتلقي ، تتسارع حيوات الأبطال أو البطل. الراوي، المتعدد، وشخصيات قليلة تدور في فلكه، ويكاد الصراع يمتد بين الراوي وذواته، إلى درجة نفي كل ذات للأخرى، ومحاولة الاستئثار بالذات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة، والتخلي عن الذوات الأخرى رغم ما فيها من تفاصيل محببة ولمسات إنسانية شفافة.
عمان – الأردن
28/ 7/ 2021