لصحيفة آفاق حرة:
________________
أماني المبارك توظيف ذكي للمفردات في زحمة التناص
د. سلطان الخضور
في مجموعتها الصادرة عن دار المعتز للنشر والتوزيع والموسوم بـ ” خطيئة الظل” لعام 2021 استطاعت الكاتبة أماني المبارك توظيف مخزونها الفكري في تناصات عديدة ومباشرة مع المعتقدات الدينية والوطنية والموروث التاريخي والقيم والعادات والتقاليد.
في خطيئة الظل أشتم رائحة الفلسفة, وأردُّ على سؤالين قفزا إلى ذهني للوهلة الأولى حين قرأت العنوان, هل للظل خطيئة؟ كيف لا والظل ملازم للبدن حركة وسكونا, لكن الخطيئة إن وجدت هي خطيئة من يمثله الظل, أما الثاني هل لنا أن نجسد الظل؟ وتكون الإجابة, لأن الظل ظل فلا يمكن تجسيده, لكن من الممكن تكبيره وتصغيره والتخلص منه, بقدر ما نعرض أنفسنا للشمس والإنارة ونبقيها في منطقة التنوير, عندئذ نتخلص من الظل ومن خطيئته ونبقي على خطايانا.
وفي خطيئة الظل أقرأ انفصاما محموداً, فكثيراً ما يحتاج أحدنا ليقول بصوت عال ما لا يستطيع قوله بحضور كائن بشري آخر, عندئذ لا بد من مرآة يخاطبها أو ظل يستمع إليه, ويبدو أن كاتبتنا اختارت التمترس خلف الظل لتقول ما قالت في نصوصها.
والعنوان “خطيئة الظل” يتوافق مع نص الحديث النبوي الشريف “البر هو حسن الخلق، والخطيئة هي التي تتلوى في قلبك والتي لا تريد أن يعرف الناس عنها” وهذا المعنى يتوافق مع العنوان في جعل الخطيئة في الظل, والذي يكون في الظل في العادة لا يكون ظاهراً ولا يعرف عنه الناس.
أما الإهداء في خطيئة الظّل, الذي كان إلى والدها قالت الكاتبة الكثير في كلمات معدودات وكثفت المعنى, فقد جمعت في هذه الكلمات معاني الإخلاص والوفاء, والتعلق بتراب الوطن وحب أهليه, وريفه بقمحه وخضرته وزيتونه وبساطة سكانه, إضافة إلى استحضارها معركتين مهمتين في تاريخنا العربي الاسلامي, فهي إذ تذكر والدها تذكر معه الطيب, وهذا ديدن الاردنيين, وما وصفها لنفسها بالفلاحة إلا اعتزاز بكل فلاحات الأردن وريفه, وما قولها بيدي حفنة قمح إلا تعزيز لهذا المعنى, فالحفنة تعبير فلّاحي أصيل والقمح رمز للعطاء “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة” كما أشار القرآن الكريم في الآية 261 من سورة البقرة.
أما قولها كرامتنا من يرموك, ففيه تناص تاريخي ديني محكم مع القرآن الكريم أيضاً, فالكرامة رمز لنصرنا في العصر الحديث, وفي هذه المعركة فئة قليلة انتصرت على فئة كثيرة وعدد محدود لا يحمل إلا الإرادة وما خف من السلاح, انتصر على عدو مدجج بالعدة والعتاد, ” كم من فئة قليلةٍ غلبت فئةً كثيرة بإذن الله” الآية” 249″ من سورة البقرة, وهو تكرار لمشهد معركة اليرموك, حيث تمكن ستُّة وثلاثون ألفا من جيش المسلمين من الانتصار على مئتي وأربعين ألفاً من جيش الرّوم,. هذا الربط بين الكرامة واليرموك ربط ذكي, حيث شكلت الموقعتان تحولاً تاريخياً في النتيجة والمعنى.
ولما قالت في هذا الإهداء ” وصمودي يضرب جذره في الأرض لينبت زعتر” جمعت بين السياسي المتمثل بالصّمود , والصّمود يعني القدرة على مقاومة الأزمات بكل أشكالها, وما بين الأرض التي منها خلقنا وإليها سنعود بعد الموت, وما بين عطاء الأرض الذي مثلته بالزعتر, وفي ذلك إشارة إلى التجذر والأصالة وتناص مع الآية 55 من سورة طه” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى”
وتناص مع الآية “11” من سورة النحل ( ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات, إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
ونراها تقف على عتبة اصدارها لتوظف قولاً لـ” بودلير” عن الشعر وقدره, حيث قال” إنه قدر عظيم قدر الشّعر لا يلاحظ فحسب, بل يصحح أيضاّ, إنّه يتحول في كل مكان وزمان نفيًا للظلم”
فقد استطاعت أن توظف قولاً مأثوراً مختصراً, لتختصر به مقاصد الشعر إذ يتجاوز دوره تسجيل الملاحظة ليصل إلى تصحيحها وتعديلها, وأن له وظيفة رئيسة, ورسالة يوصلها وهي استنكار الظلم ونفيه وفي ذلك دعوة مبطّنة للعدالة.
وفي نصّها الأول الذي حمل عنوان ” الفلكي” حيث تقول
قرطان كشكل النجم/ هلالان ينفران من طرفيّ محيّاك/ أنا الفلكيّ المهووس بالاكتشاف في فضاء الأنوثة/ مجهر قلبي المفتون بجسم غريب/ والغريب أني ما رأيت إلا بريقا/ يتوجسني باشتعال ارتعاشات الدخان/ تلفني حلقاتها بافتراس الوقت/أزملني وشاحاً فضّياً/ ما تطاير إلا شفقة على رجولتي/ المتدفق ماؤها على وجه الخرائط الآخذة تفاصيلها مجرة دمعك.
نحسبها في هذا النص استعارت من اللغة جمال القرطين يتدليان من شحمة أذن الأنثى, واللذان كان كل منهما على شكل هلال, حيث منحاها جمالاً وبريقاً. فافترس الفلكي الوقت واستمتع بما رأى, وقد جاء استخدام الفلكي ليتوافق مع لفظة “النجم” و”لفظة” “هلالان” ولفظة “الاكتشاف”
ونحسبها كذلك عقدت تناصاً مع قول عمر بن أبي ربيعة في وصف صاحبته هند ” بعيدة مهوى القرط إما لنوفل / أبوها وإما عبد شمس وهاشم.” كناية عن المسافة الطويلة بين شحمة الأذن والكتف, ليشير إلى طول صاحبته الفارع.
أما نصها الثاني الذي وسمته بـ” جنوح غض” والذي تقول فيه (وإن هبّت نسائم الجنوب/ لوّح القلب بدء الأعياد/ تزينت حجراته
قناديلَ ونبضه الصبّ / باتت طبولاً تقرع في المحراب/ أن يهب الروح الدليل محياها الغض/ تقطر منه روائح الورع/ والقلب جنوبيّ الهوى/وجدة اليقين وحدها طاعة وسمع/ تتمتم قدس الليل كصوفي ردد تراتيل الهوى.
المعروف في موروثنا العربي أن نسمات الجنوب في العادة هي نسمات رقيقة وحانية, فكيف بها حين تهب, فتهب معها الأعياد على وقع قناديل خافتة الضوء, فتثير شجن الروح لتبدأ التراتيل بقدسية الهوى صوفيّة.
ومن الواضح أن هناك تناص واضح مع أغنية فيروز ” دقوا المهابيج للأخوين رحباني, حيث أرتبط الحب بالهواء الجنوبي تقول فيروز:
دقوا المهابيج خلي الهوا جنوبي
صوت المهابيج ينده يا محبوبي
و الريح السودا تهيج دقوا المهابيج
فالترابط واضح بين نسمات الهواء الجنوبي والجلسة الهادئة وضوء القناديل وبدء الأعياد والتراتيل الصوفية.
أما النص الثالث في هذه المجموعة, ” في محراب الهجر”
أرتدي عباءة التهجد/ أقرأ سورة الحب قراءة جهرية/ ناراً, نوراً, نعيماً, نحباً على أرض المحبينً/ نشاطرها الطّواف حول القلب/ نلوك الخيبات/ملح دمع, نمضغ الوقت على مهل/ نمارس الابتلاع بغصّة الموجوع/ ونمضي … ونمضي/ يدك يا ظلي/ أربت على نبضي الفائض صوته بالنحيب/ ألم يك الحبُّ يوماً مشوّه النبض؟ والتقينا على رصيف العشق المفخخ/ بغصّة الموجوع امضي/ امرأة الحزن.
في ظل الموروث الاجتماعي والديني, هل لمن تلبس عباءة التهجد أن تقرأ سورة الحب بصوت جهورى؟ وهل لها أن تطوف حول القلب؟ لا أعتقد أن ذلك يمكن أن يكون إذا ظلَّ بلا ظل, إذن تبرز الحاجة للظل, لنمارس طقوساً لا تمارس بدونه, أو يكون اللقاء على رصيف العشق المظلل بالكتمان, عشق بظلِّ مفخخ, فيه غصّة الموجوع لكن كاتبتنا تمضي مرّة بظل ومرّة بلا ظل
….
إربد – الأردنّ