في خواتيم حزيران كنست زوبعة صغيرة على مشارف الهزيع الآخر من الليل بعض الورق الأصفر المتناثر على أطراف الشارع قبل أن تتلاشى تماما في تطوافاتها المرتجلة على إثر صهيل الرصيف على المدى المفتوح باتجاه الميناء القديم عند انعتاق كاهله تماما من نشازات وقع خطى الأمس المتخبطة جيئة وذهابا ،وقبل أن تنبري إحدى السفن التجارية الرابضة هناك وهي تتأهب للإبحار للرد عليه بصفارتها المزعجة تململت في الجانب المحاذي للرصيف بعض (الكراتين) المتكومة على جسد الشحاذ المتكور على نفسه حين ند منه سعال خفيف .. إنها الخامسة صباحا ..
،وماإن انقشع رداء الفجر رويدا رويدا حتى عادت الأقدام المتخبطة تثقل كاهل ذات الرصيف التعس فيما تداعى هدير محركات المركبات على طول الشارع ، وفي هذه الأثناء أرسل البحر تصبيحة طرية زرقاء إلى الأعلى على وجه صبيح بشفتين تعانقان الفنجان الأبيض ويد فاترة رخامية الأصابع ملقاة على حافة الشرفة ،ثم سرت نشوة في كامل الجسد البض ليعترضها بائع الصحف المتجول وهو ينادي على المارة
: خبر طازج ..خبر طازج..
وما إن سمع الشحاذ النداء حتى رفع جزءا من الكرتونة التي يغطي بها وجهه المتسخ ، وقام من مرقده المعتاد على (الفوتبات) بمحاذاة السور الذي يلف ڤيلا المسؤول مالك الصحيفة والمخبز بأسلاكه الشائكة.
هرع بعينين نصف مغمضتين إلى بائع الصحف ليسحب بحركة خاطفة إحدى النسخ الصفراء ،ويودع طرفها فمه ، ويمضغها بطريقة آلية.
صرخ به بائع الصحف ،وكال له سيلا من الشتائم ،واللعنات راكلا إياه حتى اصطدم جذعه بعمود مدخنة المخبز .
حدث هذا أمام الحسناء ابنة المسؤول التي تعاطفت معه من أعلى الشرفة وصرخت بصوتها المبحوح : أو حرااام مالك علوه..
،وقبل أن يظهر قرص الشمس الاصفر في الأفق ،ووجه الفتاة التي تقطع الشارع الآن ،وهي تدفع عربة والدها المقعد ،وتضع على وجهها المدور أصباغا صفراء ،في حين بدت تلك العملات الذهبية بمقاس أكبر من حجمها المعتاد ،وهي تتوسط لوحةإعلانات عن مسابقة تنظمها إحدى شركات الهاتف النقال ، قبل أن تتحول كل هذه الأشياء من أقراص خبز إلى هيئتها الحقيقية في عينيه بعد انفتاحهن بالكامل وزوال أثر النوم عنهن ،أعاد الصحيفة لصاحبها وقد اهترأ جزءا من طرفها، وهو يعتذر له : آسف ظننته (خبز طازج) أو هكذا سمعته .. بل لم أذقه منذ فترة ثم تحسس معدته الخاوية فتجاوبت معه كقطة تتمسح بكفه بعد أن نالها بعض دفء شفيف : قرقرقر ،أووووم، قرقرقر….. .