شدّت إلى صدرها بقوة، ذاك المئزر الأبيض، مئزر ملاك الرحمة، الذي يرتديها مثل ندفٍ أبيض على ارتعاشات الأرصفة، طلبت منه عبثًا الحمايةَ والدفء، في ليلةٍ كاد أن ينبلج صُبحها ويفضح ما سترَ من عيوبِ الزمنِ الغادر، والزفرات الخانقة.
أمّا المركبة التي ألقتها على قارعة الشارع، فقد غادرت بسرعةِ البرق، غير مكترثٍ سائقها بما قد تعاني، من خوفٍ حتى من ظلّها، ومن صوتِ وقعات أقدامها على الإسفلت، إلى أن تصل مسكنها الذي يبعدُ مسيرة ربعِ ساعةٍ على الأقل، إن أسرعت المسير.
ما يرعبها أكثر الأوضاع الأمنيّة غير المستقرّة، فقد تنال منها رصاصة طائشة، أو قذيفة أخطأت المسار.
أسرعت الخطى بوجلٍ، حتى سبقها خيالها، وهو يناديها لتلحق به محذرًا من التدهور في صدى الطرقات الوعرة الشريرة.
من بعيد رأت نورًا خافتًا، ينبعث من نافذتها وثلاثة أزواجٍ من عيون بريئة تنتظرها، تسعى هي بكلِ قوتها لإبقائها حرة أبية، وبعيدة عن العوز، يرقبون بجوعهم رجوعها.
أكبرهم تجاوزَ العشرة أعوام، والصغيرة التي تصغره بخمسة منها، وأوسطهم صاحب السنواتِ السبع المبتسم دائمًا.
ثلاثة أيتام، من أبٍ شهيد، قتلتهُ بعض شظايا أفاعي الحرب، ومنعت أهازيج القنابل والرصاص المسعفين من الوصول ِ إليهِ، قبل حلول ساعةِ القضاء، هُدرت مع غيابه أحلام أسرته الصغيرة.
لاحت على وجوههم السعادة، لرؤيتهم والدتهم تعود سالمة، تحوَّل في لحظة الحذر والخوف إلى أمان وراحة، والترّقب إلى أمل.
وكأنهم مصلوبون على مرفأ انتظار، ويؤجلون الفرح إلى حين وصولها كل ليلة متأخرة تحملُ لهم ما طلبوا منها، من احتياجات لا تنتهي.
لوحوا مستبشرين لها بأيديهم الصغيرة، فتلاشت من روحها غمامة الليلة المرعبة، وذوت الأفكار السوداء، ورحلت إلى البعيد البعيد
وصوت ضميرها يعلو في داخلها:
فليحيا أطفالي بسلام، وليفنى كل شيء دونهم!
فتح الباب لها ولدّها الأكبر، من قبلِ حتى أن تحاول طرقهُ، ونظراتهم متشوّقة لوجهها ذي القسمات الجميلة.
تلك النظرات أهدتها زمنًا إضافيًا، ومنحتها وجودًا جديدًا في محطات فقدانها، وفي غمرة عناقهم، امتدّ نظرها إلى الشارع المعتم، الطرقات المفتوحة، هي السجن والعزلة، وجدران بيتها المتواضع هو الانعتاق والأمان، منتهى الكرامة بعد ابتذال إنسانيتها.
سؤال بريء باغتها، من ابنها صاحب السنوات السبع:
كم مريضًا ساعدتِ اليوم؟
اتسّعت حدقتا عينيها وبابتسامةٍ متعبةٍ حزينةٍ أجابت:
لم أحصِ عددهم…
اقترب منها وبفضولٍ طفولي حاولَ فتح الكيس الأسود، كيس يراهُ يوميًا مع والدته، ولكنّها لا تسمح لأحد بالاقترابِ منه.
صرخت بغضب:
ابتعد! هي بعض أشياء خاصة بالتمريض، قد تتأذى.
دخلت غرفتها وسط ذهول الأطفال، حاملة الكيس ذا المحتوى المبهم، وقبل أن تخلدَ إلى نومٍ قلقٍ كالعادة، أخرجت من الكيسِ الأسود فستان رقصٍ خليعٍ من “الترتر” الأحمر، علّقته في خزانة مقفلة بإحكام، استعدادًا لمعركة جديدة، هي فيها المنهزمة كل ليلة، منذ استشهاد زوجها…