قراءة في رواية (كل الأشياء بثينة) بقلم: أحمد العربي

لصحيفة آفاق حرة;

 

قراءة في رواية: كل الأشياء.

الكاتبة: بثينة العيسى.

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون.

ط ٣، ورقية، ٢٠١٧م

 

بقلم: أحمد العربي

 

بثينة العيسى: روائية كويتية متميزة جدا، نستطيع القول بعد قراءتنا لاغلب إنتاجها المتدفق، انها من رائدات الرواية العربية والخليجية والكويتية المعاصرين وعن جدارة، تغوص عميقا في موضوعاتها، تعيش انسانيتها، بصفتها امرأة و كويتية وعربية ومن هذا العالم، منخرطة صميمية مع هموم كل هذه الفضاءات بكل عمق ومصداقية، ترسم لنفسها معالم طريق ورسالة، تؤديها بجدارة عبر رواياتها المتتابعة.

كل الأشياء، رواية تتحدث عن صلب الموضوع المعاش عربيا وكويتيا بكل تبعاته، انه الربيع العربي والكويتي من ضمنها، هذا التسونامي لمطالب الشعب العربي والشباب بشكل أساسي، الذين خرجوا في ساحات سورية ومصر وليبيا واليمن والعراق والكويت… الخ. تطالب بحقوقها الانسانية المفتقدة، تطالب بالكرامة الانسانية والحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل. تركز الرواية على الكويت من خلال متابعة الناشط في حراك ربيع الكويت جاسم العظيمي، ومتابعة تفاصيل حياته الخاصة، وعلاقاته بوالدة عبد المحسن العظيمي، وصديقة نواف وحبيبته دانة داوود، عبر متابعة يختلط بها المكان بين الكويت ولندن، والزمان الماضي كويت السبعينات وما بعد وكويت الان، متابعة تداخل الخاص بالعام، راصدة تموضع الخاص ضمن العام، وتفاعلات الموضوعات المعاشة كلها لتصنع حياة جاسم بصفته الشخصية المحورية في الرواية، وحبه، ونشاطه في التوين أيام الربيع الكويتي، وصدامه العائلي مع والده، واعتقاله من النظام واحتجازه عند الأمن، ثم الحبس في السجن العمومي، وتجربة السجن الانفرادي، والخروج، ومن ثم الهروب إلى لندن والعودة، والانخراط مجددا بالهم العام .

تبدأ الرواية عندما يعود جاسم العظيمي من لندن الى الكويت بعد مغادرته لها منذ أربع سنوات، يعود بعد ان قرر ان لا يعود ابدا، لكن ما حصل كان فوق طاقته وفوق قراراته، لقد توفي والده عبد المحسن العظيمي، والده الذي كان علما صحفيا واجتماعيا في الكويت، يعود جاسم وهو مقرر في نفسه، انها عودة مؤقتة، الى حين انتهاء العزاء، يجب ان يكون الى جوار والدته، لمواساتها على فقدان زوجها، ويشارك اخوه برّاك والعائلة بواجب عزاء والده. جاسم يتذكر صراعه الدائم مع والده، الكل يصر على انه يشبهه، عنيد وصاحب موقف لا يتزحزح عنه. الوالد صحفي كبير يتابعه الملايين ينشر في أهم الصحف، يتابع قضايا المجتمع ويشكل الرأي العام، قريب من السلطة ومن دوائر القرار. كان أول اختلاف بين جاسم ووالده، حين حصل الربيع العربي، وانتقلت عدواه الى الكويت، وكان جاسم من المشاركين به، رغم رفض والده لهذا الحراك، والتشكيك به، بكونه مراهقة و تصرفات صبيانية غير مسؤولة. والتحق بموقف السلطة المعادي للحراك، واعتبرها تحمي البلاد ولن ترحم هؤلاء الشباب المتهورين. كان ينظر لتصرفات شباب المطالب العادلة على انهم مخطئين، اختلف جاسم مع والده، وكان البيت جوا للصراع، وانتقل الصراع ليكون على مواقع التواصل الاجتماعي، ليصل أخيرا ليكتب جاسم ردا على والده، الذي وصف شباب الحراك الديمقراطي، بشباب البامبرز، ورد عليه جاسم، بأنهم كتّاب السلطان والمتسترين على عيوبه، رغم كون والده يتباهى بأنه كان واحدا من المناضلين قديما للدفاع عن الدستور وحق الشعب بالمجلس النيابي المنتخب، لكن والده تغير الان واصبح جزء من الطبقة المالكة والحاكمة وصاعة الرأي. كان رد جاسم على والده قويا و صاعقا، انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما حدى بالوالد أن يعتصم بصمته ويتوقف عن الكتابة، ومن ثم يعتقل الأمن جاسم ويزجّه في الحجز تحت تهمة الحض على إسقاط الحكم والنعرات المذهبية .. الخ، ومن ثم يحول الى السجن ويحكم في البدء لمدة سنتين، ومن ثم يخفف الحكم إلى ستة أشهر بعد الاستئناف. سيكون للاعتقال والسجن تأثير كبير في عقلية ونفسية جاسم، سيكتشف ضعفه وعجزه أمام آلة النظام، سيكتشف أنه مُستفرد كشخص ضعيف وأنه أصبح ممتهنا ومهانا بانسانيته. كان الاعتقال والسجن، بداية اكتشافه غول السلطة الذي يأكل كل مخالفيه، ويكتشف كم كان ساذجا عندما فكر أن يثور هو وغيره، ولا ينتظر ان يعاقب ويسجن ويهان ويخسر إحساسه الإنساني، سيتذكر الاعتقال والتهم الملقاة عليهم جزافا، وأنه لا يملك أي حق بالرد او المواجهة أو حتى الحماية. أما السجن الذي سيكتشف انه اصبح بصحبة القتلة وتجار المخدرات وأصحاب السوابق، وكيف يتورط بخصومات او صراعات سخيفة تؤدي به للحبس الانفرادي، وكيف يكتشف بالحبس الانفرادي أنه لا يساوي حشرة، يكتشف ضعفه ووحدته وغربته في هذه البلاد، يكفر بالمبادئ التي كان يحملها، ويقرر أنه سيغادر الكويت الى بلد آخر يهرب به من ذاته واهله ومن الكويت، لقد تابع بعد سجنه ستة أشهر بعثته لدراسة الماجيستير إلى انكلترا، واستقر فيها لأربع سنوات. عاد مجبرا فهذا والده عبد المحسن العظيمي قد مات، كان يظنه لا يموت، عاد ليلتقي بصديق النضال نواف الذي سيكون رفيقه ودليله كل الوقت. يتذكر والده وخلافاتهما، ويواسي والدته، وشارك مع أخيه في التفكير في المستقبل، أخاه يريده ان يبقى بجوار والدته التي أصبحت وحيدة، هو يسارع للانتهاء من العزاء ليهرب ثانية من ذاته ومن ذكرى والده ومن الكويت إلى لندن. يهرب أيضا من حبيبته دانة داوود، كان يحن لها، وتتبع أخبارها. دانة التي احبها منذ سنوات بعيدة، والتي كانت له الملجأ الوحيد مع صديقه نواف في الكويت سابقا، كان يحبها وكانت تحبه، لكنه لم يستطع تجاوز انه ابن طبقة اجتماعية متميزة، وأنها كانت فتاة عادية، لذلك سكت عن حب لم يتوج باعتراف، وسكتت هي عن حبيب لم يكن بجرأة ان يتحدى بحبه اهله والمجتمع ويتزوجها، كانت دانة جرحه الذي لم يندمل. يعرف من صديقه انها ماتت منذ سنتين بحادث سير، يندم انه تركها وهرب الى لندن، استمرت على التواصل معه، أيام كان في السجن وفي لندن إلى أن ماتت. تابع مع صديقه نواف قصة موتها وتبين أن وراء الموضوع جريمة قتل، هناك من كان يتابعها ويهددها دوما ويتهمها في عرضها، وينشر صورها عبر التواصل الاجتماعي، لقد حولوا حياتها لجحيم، وكانت النهاية قتلها بحادث سير مفتعل، ومن خلال التقصي من جاسم ونواف تبين أن هناك من كان يهددها ويبتزها، وعندما تم متابعته، تبين انه انتحر بالمخدرات بعد موتها بشهرين. وبمتابعة حكايته، تبين أن ذلك ليس صحيحا، بل هي جريمة قتل اخرى، لانهاء شهود على حكاية فساد كبير لشركات وهمية تبتز مال الدولة بمئات الملايين، وكانت دانة والشاب من يتابعوا الموضوع. عند ذلك قتلت دانة ومن ثم الشاب، مع تشويه صورتهما الاجتماعية، السقوط الأخلاقي والمخدرات. يتابع جاسم ونواف الموضوع بالتفاصيل ويقرر جاسم ان ينتقم لنفسه المظلومة سابقا، ولحبيبته وللشاب الشريف الذي أراد أن يفضح الشركات التي تنهب البلاد، ومن وراءها من النافذين في السلطة والمجتمع. أراد أن يرد الاعتبار لنفسه وانسانيته، وان يعاود الكتابة ويفضح الموضوع بالتفاصيل وينشره، ثم يذهب إلى لندن بعد أن اراح ضميره واوفى حق حبيبته دانه وذاك الشاب. وبالفعل يكتب النص ويرسله للنشر وينشر ويحصل على الصدى المطلوب. ويقرر السفر بعد ذلك، وفي المطار يلقى القبض عليه من الامن والسبب انه ممنوع من السفر وان عليه كثير من القضايا الجنائية. إنه الادعاء والافتراء الغير مؤكد بحق اشخاص وشركات وهذا يستدعي محاكمات وسجن…الخ

تنتهي الرواية بالقبض على جاسم وتحويله الى التحقيق.

في تحليل الرواية نقول:

اننا امام رواية جديدة باهرة لبثينة العيسى، التي اصرت ان تبقى مواكبة للوجع العربي، لقد ثار الشباب العربي والكويتي منهم في مطلع عام ٢٠١١م، في الرواية إشارة إلى عمل الأنظمة المستبدة وبدعم من الغرب لوأد هذا الربيع، ولو تطلب ذلك قتل شعوب وتدمير بلاد كما حصل في سورية، تذكر الرواية تاريخ عودة جاسم ليعيش مأساته المتجددة، بالحديث عن القصف على مدينة الرقة السورية، يوم سويت بالارض وشرد اهلها، تحت دعوى محاربة داعش، تبعات ضرب الربيع العربي، انقلابات مصر، وعودة الاستبداد بصورة اشرس، الحروب الاهلية المصنعة في ليبيا واليمن، المصير الاسوأ للسوريين، ملايين مشردة ومدن مدمرة ودول تحتل سورية، التي أصبحت جثة هامدة. أرادت القول أن واقع ضرب الربيع الكويتي جزء من ضرب الربيع العربي.

وأرادت الرواية أن تتحدث عن انتهاك إنسانية الإنسان، بدء من منعه من حق التظاهر والتعبير الحر عن الرأي، واعتقاله وسجنه ان تجرأ وتحرك، وكيف تهدر كرامته بالاعتقال والسجن، ومضاعفات ذلك على نفسيته، بحيث يفقد الإيمان بأي مثل ويصبح ضحية قوة جبارة تسيطر على العالم، والشعوب كلها ضحايا. وهنا اود القول ان ما ذكرته الرواية عن الحجز والاعتقال والسجن، يكاد يكون نزهة لما يحصل في سجون الاستبداد العربي. تعذيب حتى الموت، قصف مدن كاملة قتل للبشر، اشلاء النساء والاطفال مبعثرة تحت الابنية المدمرة بفعل البراميل المتفجرة، كما فعل ويفعل النظام السوري المجرم. كذلك الحروب الاهلية التي استباحت البلاد والعباد في أكثر من بلد عربي، ثار أهله يوما.

كانت الرواية ناجحة في شدنا كقراء من البدء للنهاية في موضوع ترابط به العام بالخاص، وبحيث ظهرت أحيانا وكأنها رواية بوليسية، لكنها تعود تربط خيوط روايتها، من أعمق ما يعيش أبطالها وجدانيا لنصل الى ما يحاك في دوائر الحكم وفئات المستغلين الطفيليين مصاصي دماء الشعوب، الى ارتباطاتهم بالقوى العظمى، كمستثمر اكبر للبلاد والعباد والحكام، ضمن معادلة مصالح لا تنظر إلا إلى عوائد مصالحهم ولوكانت بدماء وحياة الشعوب.

اخيرا. هكذا عودتنا بثينة العيسى على إنتاج روائي ابداعي ينصب على وجعنا الإنساني الفردي والعام، نحن العرب، تكتب منوّرة حول كثير من القضايا. تحمل رسالة الابداع، بصفته مسؤولا عن الانتصار لقضايا الإنسان الاساسية: الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل .

 

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!