وضعت رأسي على يدي الممدة فوق الطاولة متعبا ونمت وقت غير قصير، أيقظني صوت بكاء خافت ودموع حارة منزلقة باتجاه أصابعي، رفعت عيني للشمعة مفتوح الفم متسع الأحداق مرعوبا من يديها اللتان تحتضن بهما جسدها الذي يذوب بسرعة فائقة، ومن صوتها الرقيق ومن حوارها مع الفتيل !
(قالت الشمعة برجاء: كف كف عن الإشتعال.
أجابها متأففا: لا شأن لك.
،ثم صاح بصوت حاد: أنا حر بنفسي حر فيما أفعله.
كان الفتيل متباهيا بشعلته المضيئة، غبيا ككتاب يشرب الماء نكاية بالحبر، بينما كانت الشمعة حزينة كل مافيها يبكي، حنونة كجدة لها حافد وحيد.)
بعد مرور لحظات قدرت أن ألملم لساني المرتجف داخل فمي، وأن أسأل: هل ماسمعته حقيقي؟
ثم صفعت وجهي بقوة، وعصرت أذني كما كانت تفعل أمي وهي توبخني، ولكن لا الشمعة ولا الفتيل أختفيا من أمامي.
لقد كان الأمر لا يصدق لكنني صدقته ومددت سبابتي لألتقف إحدى دموع الشمعة بشفقة عظيمة، شعرت بحرارتها تلسع قلبي، تجمدت سريعا، فقربت وجهي نحو الشمعة، قلت معتذرا:
لم يكن قصدي أن أفصلها عنك.
قالت بخجل: لا بأس.
ثم تابعت انتحابها الهادئ بينما تأملتها مبتسما فرغما عن انهمارها وتقلصها المتتابع كانت جميلة حتى خلتني وقعت بغرامها، فقلت لها بعد تردد: هل لك أن تشرحي لي مايحدث؟
زفرت نفسا طويلا كاد أن يطفئ الشعلة، فنهرها الفتيل قائلا بقسوة: توقفي عن محاولاتك إيقافي عن التقدم والعلو، توقفي عن الغيرة وحب التملك.
أزعجتني قسوته، قلت له مهددا: توقف وإلا -ونفخت أوداجي مشيرا بذلك لإطفاء الشعلة عقابا له –
سكت مغتاظا، وقالت الشمعة تستعطفني: أرجوك لا تقسو عليه.
أدرت وجهي مستنكرا دفاعها عنه هذا المتعجرف وقلت: سيدة شمعة لا وقت لدي أخبريني قصتك قبل أن تستبيحك هذه الشعلة حتى آخر أنفاسك.
تبسمت مجيبة: منذ عرفت نفسي وهذا الفتيل يسكن أحشائي أحميه وأسنده، أخاف عليه -وتابعت بانكسار- : وأخاف منه.
تقوس حاجبي باستغراب شديد قائلا: تخافين منه؟!
شردت قليلا وازدادت الشعلة ارتفاعا بينما تقلص حجمها بطريقة عكسية.
حينها إدركت ماذا تقصد، فهمت مخاوفها، ولامست أوجاعها، غضبت بشدة، أطبقت إبهامي وسبابتي على الفتيل المشتعل، وغرقت الغرفة في ظلام، وآخر ما سمعته مواساة الشمعة المحتضرة للفتيل المغرور قبل أن يختفي كل شيء وأبقى وحدي أتقلب في سريري بحيرة عظيمة.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية