عيناها الوسيعتان السوداوان تحتضن عالما من الوداعةوالجمال، هذه زهور هبة من السماء ..
يشعل سيجارة ويمد ساقيه باسترخاء واضعا إحداهما فوق الأخرى، يتصاعد الدخان من جمرتها كخيط رفيع يتكاثف كلما صعد إلى الأعلى. يتلذذ بمراقبته قبل أن يتلاشى في فضاء الخيمة الكالحة اللون.
يضع سلاحه الآلي إلى جانبه في وضعية استعداد، قلبه يدق دقات متسارعة تسابق الثواني على ساعة يده المهداة من زوجته وحبيبة قلبه(زهور).
في خارج الخيمة ثمة متارس صخرية وأخرى ترابية ، في الخيمة ذاتها يتواجد إلى جانبه عدد من زملائه الجنود ، بينما ترامت في أرجاء المعسكر خيمات أخرى متباعدة مسافات آمنة.
فجأة تأتي زهور زائرة مخيلته، بعد أخذه نفسا عميقا من سيجارته مثيرا غيمة من الدخان،
تحمل مبخرتها الخضراء ذات النقوش الذهبية الألوان، تطوف بها أرجاء شقتهما الصغيرة، يراقبها بمخياله تعبر الصالة بعد أن طافت بها يلاحقها خيط كثيف من الدخان المعطر، بدت جميلة بفستانها الذي طلب منها ارتداءه في آخر ليلة قبل أن يغادر. تدلف إلى آحدى الغرفتين فيراقبها عقلا لا جسدا، يطرب ويهتز جسده مثيرا بعض الغبار جراء فعل قدميه على أرضية الخيمة العالق بها التراب، وبغير شعور يستمر بمتابعة المشهد اللذيذ الذي لا تضاهيه لقطة سينمائية قط.
مازالت تنثر عطرها ، تخرج للغرفة الثانية ومازال خيط البخور العدني المميز والكثيف الذي لا نظير له يلاحقها متنفسا من جمرات المبخرة وهي تمشي بها بدلال في زوايا الشقة.
تدخل عليه بينما هو ممدد على السرير، منشغلا أو يبدو كذلك، بمطالعة هاتفه الخليوي. تذرع الغرفة من ركن لآخر بحيوية. تتغنج وترميه بنظرة كالسحر وابتسامة عذبة قادته لعالم من البهجة والاحساس بالتفرد عن غيره. ينتشي لها فيبادلها ابتسامة أعذب .أخذ أحد زملائه الجنود يشير إليه بصمت ويهمس في أذن زميل آخر مراقبين له وهم يرونه مستغرقا في عالم آخر .
يأخذ نفسا ثالثا، يذكر اسمها علنا (آهِِ.. زهور)، كان قد رآها ضيفة في عرس لقريبة له. إحتلت مكانتها في قلبة من يومئذ. كان يحاول الوصول إليها لكنها اختفت فجأة من أمام ناظريه، جالت عيناه باحثة عنها بين الجموع الحاضرة في لهفة لاتخفى، لكنه وجدها أخيرا تناظره من نا فذة منزلهم في الطابق العلوي ، أراد أن يلفت أنتباهها أكثر فانضم لحلقة الرقص في الساحة أسفل المنزل ، أخذ يرقص على أنغام قرع الطبول والأهازيج الشعبية فيما تطلق الأعيرة النارية في الهواء ابتهاجا، رقص ورقص وهو يناظرها على خفاء بينما كانت تبتسم . ظهر الغبار بفعل ارفضاض قدمية وباقي الراقصين على الأرضية الترابية .
شكَّل دخان البخور العدني غيمة كثيفة وضخمة ملأت الغرفة بالكامل، يعود من جديد ليأخذ نفسا رابعا ( زهور ..يا أجمل ما في حياتي ، شهران مضيا منذ غادرتك يا عزيزتي). يلتفت حوله، زملاءه الجنود منهمكون بأحاديث جانبية لا تهمه البتة الآن، يعود لعزيزته ويجنح به خياله، يترك نفسه منقادا في أخاديد الذاكرة بحثا عن زهور. يسحب نفسا آخر من سيجارته التي أوشكت على الوصول إلى نهايتها. لكن زهور تغادره فجأة ، تلسعه جمرة السيجارة ، يتلاشى طيف حبيبته ، ينط متوثبا ومفزوعا ، دخان كثيف جدا يتعالى بعد هزة ورجة شديدتين ، رائحة بارود خانق إثر سقوط قذيفة معادية ليس بعيدا جدا عن الخيمة. تتصاعد الأتربة ويغمر الغبار المكان ، يركض مسرعا مع رفاقه إلى خارج الخيمة. تأتي أخرى وتسقط على مسافة ليست ببعيدة ليثير ارتطامها بالأرض صوت انفجار عنيف يهز المكان، يتبعة أزيز رصاص متطاير هنا وهناك .زهور تتلاشى مع بخورها مؤقتا ربما.إذ ذاك يدرك الجميع الخطر المحدق ، يلجأون للمتارس والسواتر الترابية بينما يرسم الغبار المثار والكثيف والمختلط برائحة البارود الخانقة عالما ضبابيا لا حدود له.