أبدى امتعاضا وتذمرا جعلني أشعر بالحرج، لكنه برغم ذلك أقرضني العشرة، ربما تتساءلون ما هي العشرة؟ في الحقيقة هي عشرة دنانير أستلفها منه في منتصف الشهر عندما يتسرب راتبي كالماء ولا يترك أثرا، وفي نهاية الشهر أسددها، ولكن ما أن يأتي منتصف الشهر أعود وأستلفها من جديد، وصديقي هدا يفهمني، ويدرك أني لا أحتال عليه، أنا مجرد آذن بالمدرسة وهو أستاذ التاريخ، لكنه لطيف ويتودد لي وأنا أحترمه، وعندما أستلف منه لا أضمر أن أستغل عاطفته نحوي ولكنها الحاجة اللعينة التي تجبرني أن أطأطيء رأسي وأمد يدي، لكني لا أمدها للتسول لا سمح الله وإنما أنا أقترض، لذا أحترم نفسي، وصديقي هذا يقرضني من مدة سنة، العشرة… هي دين ثابت لا يتغير، الآن لمست منه تذمرا، ماذا أفعل؟ وعدته أن تكون المرة الأخيرة . وأنا مصمم أن تكون الأخيرة، سأعيدها إليه ولن أستلفها ثانية، سأبر بوعدي لو اقتصر قوتي على الخبز والماء، لكن القدر أحيانا يتدخل ويقلب موازيننا، فمرض أمي المفاجيء يضطرني للتراجع عما انتويت ، اشتريت لها دواء غير متوفر في صيدلية المستشفى الحكومي، وهكذا أنفقت العشرة التي ادخرتها للسداد، وصديقي الأستاذ سيفهم وضعي لكني وعدته، وعلي ألا أخلف وعدي لأحافظ على احترامه لي ، فأنا أعتقد أنه يحترمني، أو على الأقل لا يحتقرني كغيره من المدرسين، على أن أفي بوعدي، وقفت في زاوية متجهما، والأفكار السوداء تتملكني، وبينما أنا مسترسل مع أفكاري لمحت أستاذ الكيمياء الذي مر بالقرب مني ، ولأول مرة أشعر منه تعاطفا نحوي، وإذ لمست هذا بقرني استشعاري زحفت نحوه واستعطفته أن يقرضني العشرة، وحالا سددتها لأستاذ التاريخ، وابتسمت بثقة وخيلاء ، ووعدته ألا أستقرضها ثانية، وفيت بوعدي أخيرا، وتنهدت بارتياح، أزحت عبئا ثقيلا على كاهلي، ولكن أنا لم أتحرر من عبئي، بل نقلته من كتف إلى كتف ، وإذ أدركت هذا تسلل الحزن إلى أعماقي، فالحمل جاثم على صدري، يخنقني، قد تقولون المبلغ بسيط ، لكنه بالنسبة لي ليس كذلك… ما علينا… في الحقيقة الفكرة راقت لي ، أصبحت أستلف عشرة من صديق وأسدد صديقا آخر، وأستلف من آخر لأنفق على عائلتي، ثم أستلف وأسدد، وهكذا تراكمت ديوني، ما العمل؟ أصبحت أتملق أصدقائي وأتودد إليهم ، ولا آبه بنظرات استصغار يرشقونني بها ، في الحقيقة تخدرت مشاعري أمام احتياجي، لكني لا زلت أحترم نفسي مع أني أحيانا أشعر أني مسخ رقيع ، لكن هذا الشعور لا يدوم طويلا، فأنا مضطر أن أرتدي ثوب حرباء أحيانا، المهم أن أتدبر أمري وأبر بوعودي لهم وأسدد، لكن قريبا ستنكشف لعبتي وسيتنكرون لي، هذا طبع البشر، أنا إنسان بسيط لكن الحاجة تجعلني أتفهم طبيعة البشر، فمنهم من يقرضني شفقة، وآخر يقرضني وهو باسط يده على ظاهر يدي استعلاء، ويرمقني بسخرية تكاد تكون غير ظاهرة ولكني أدركها، ألمسها، أفهمها، وأتقبل هذا ، أتقبل إهانتي وأعتبرها غير مقصودة، وإنما هو طبع البشر، ولكني فنان، أستلف من أحدهم ولا أجعله يشعر أني أستلف من غيره، أجعل استلافي متدثرا بألف غطاء من الكتمان والتستر، وهكذا آتنقل بينهم دون أن أكشف أوراقي ولكنها ستنكشف عندما أُظهر عجزي وسيحتقرونني ، وعندما تتزاحم أفكاري السوداء يكفهر وجهي وأتجهم ، أما أستاذ التاريخ الذي بررت بوعدي له، ومن يومها ما استلفت منه شيئا، نظر إلي وقال: أنا مسرور لأجلك، وفيت بوعدك، هذا دليل أن وضعك تحسن، ابتسمت بكبرياء وقلت: بررت بوعدي وكفى… ربت أستاذ التاريخ على كتفي وهنأني بالخروج من مأزقي وهو لا يدري أني بعد انتهاء الدوام سأحث خطاي إلى صديق جديد حيث وسعت دائرة أصدقائي، أصبحت أستدين من أشخاص خارج حدود المدرسة التي أعمل بها، نعم فدائرة أصدقائي تتوسع، وتتوسع ديوني… إلى متى … إلى أن يأتي الفرج الذي لا يأتي ….