اخترق صوته كل ضجيج الحياة في الحارة، َعبرَ الأبواب والشبابيك، مر خلال الأزقة الضيقة وارتفع حتى الأدوار العليا من العمارات ذات الطوابق.
أنصت كل من في الحارة، المارة، والأطفال الذين توقفوا عن لعبهم، وأولئك الذين كانوا في منازلهم أيضا.
توقفت أم أحمد عن تحريك حساء (صانونة الهوا) على النار وأرهفت السمع، أما امرأة سعيد جابر ففتحت شباك منزلها على مصراعيه، بكل ما أوتيت من فضول باحثة عن مصدر الصوت.
تهاني زوجة محمد غريب التي كانت تشاهد برنامجها المفضل، أخفضت صوت التلفاز وأصغت باهتمام للصوت النافذ من الخارج، تنهدت وراحت تردد بحسرة: قل للزمان ارجع يا زمان.
أبو عبدالله كان يتناول غذاءه، توقفت اللقمة في طريقها إلى فمه، عندما جلجل الصوت، ورأى جيش الأسئلة يظهر على وجوه أطفاله الذين تحلقوا معه حول مائدة بائسة.
أما سالم أبو ليلى الذي أرخى جسده على الفراش ليريحه من تعب النهار، منعه ذلك الصوت من الراحة، ليس لأنه صوت مزعج، ولكن لأنه أيقظ لديه الكثير من الهموم، فدفن رأسه الذي تكاد تفجره الضغوط تحت الوسادة .
وفي بيت أحمد النونو اندلق فنجان الشاي الذي كان يرتشفه برفقة زوجته خديجة، ولوّث قميصه، وضع الكوب جانبا وولى هاربا من ذلك الصوت ونظرات زوجته.
أما الحاج صادق الذي كان صائما، فقد (قلّب عليه الصوت المواجع) فأمسك لسانه عن جملة الشتائم التي تمنى توجيهها إلى… ، فتركها تحرق جوفه، وأخذ يستغفر ويحوقل ويطلق زفرات أسى بين الحين والحين، ويدعو على كل ظالم.
بينما علي جبران الذي كان بيته مصدرا لذلك الصوت، الذي افتقده منذ سنوات، فقد جلس القرفصاء وأسند ظهره إلى جدار حجرته، عيناه تذرفان الدموع.، يطالع صورة ابنه الذي سقط في الجبهة قبل ستة أشهر، وييتذكر كلماته الأخيرة عندما حاول ثنيه عن الذهاب،:
– إنهم يصرفون للمتطوعين مرتبات بالعملة الصعبة.
– وماذا لو أصابك مكروه؟
– إننا نموت هنا كل يوم، على الأقل سيظل راتبي يعينكم على الحياة.
من هذا الراتب أشترى علي جبران أضحية العيد الذي يملأ صوته الآن أرجاء المكان ويغمر قلوب أطفاله فرحاً وبهجة، ويغبطه عليه الجيران.