كالعادة نتقاسم وحدتنا، وكعادته يكون قليل الكلام، بينما أنا لا أتوقف عن الثرثرة فلا يمكنني احتمال كل تلك الأشياء في رأسي. لا خطوط حمراء في حديثي معه، أعرف أنه من المخجل جداً أن أحدثه عما يجول في مخيلتي من صور ماجنة، ومن غير اللائق التطرق إلى علاقتي بزوجتي ومشاكلنا الأسرية، ومن غير الآمن التحدث في السياسة، ومن المرعب الخوض في قضايا الدين، لكن ثقتي به لا حدود لها.
أحيانا يشاركني في هذه النقاشات، قد نتفق وقد نختلف، يغلبني أحياناً بحججه، ولكن يحدث أن يرتفع صوتي بشكل مخيف، مما يجعله يلتزم الصمت ، وأحيانا يصم أذنيه.
أعترف أنني عصبي جدا، ولم يحتملني في هذه الدنيا شخص غيره ولا أظن أحداً قد يفعل، لذلك أجدني أعتذر بعد كل نوبة غضب مني، ونعود لأحاديثنا، أنا أتكلم، وهو يصغي.
دعوني أخبركم سرا، في إحدى نوبات غضبي، فكرت في قتله، نعم قتله. يراودني في بعض الأوقات شعور بأنه السبب الرئيس في اكتئابي ووحدتي. فمنذ عرفته تركتني زوجتي، وتم تسريحي من العمل، حتى أصبح الشارع ملاذي.
قد تتساءلون لما لم أفعل؟ سأقول لكم وبكل بساطة لإنه رفيقي الوحيد.
إنه الوحيد الذي صدق أن زوجتي أفعى، لا تتوانى عن عصري حد الاختناق بطلباتها المستمرة، وأن رئيسي في العمل أخطبوط، له يد تسرق ويد تختلس وأيدي تطبّل، وأخرى تستجدي ويد تبتز وأخيرة تطعن من الخلف، فتصطاد الأفعى!
في اجتماعاتي السرية مع هتلر وجمال عبد الناصر وصدام حسين، أحرص دائماً على حضوره، ولهذا يأتي عادة في شخصية المهاتما غاندي.
كان مرافقي أيضاً عندما توجهت إلى معاشيق، كنت يومها أحمل معي حلولاً لأزمة هذا البلد، وطموحاً بأن أديره بشكل أفضل، لكن الحراس منعوني، أخبرتهم أنني جيفارا، لكنهم لم يفهموا، وعندما أصررت على الدخول، هددوني بالسلاح. حينها ارتعب رفيقي وقرر النفاذ بجلده، فاضطررت وقتها للهروب، لكنني وعدتهم بأنني سأعود.
لن تصدقوا مدى اختلاف طباعنا، ولكن مع هذا فنحن متلازمان. هو منطوٍ وأنا جسور، هو مسالم وأنا كثير الشغب. متدين هو وأنا هجرت المساجد منذ وبخني المصلون عندما قاطعت خطبة الشيخ وقلت له أن هناك قضايا أهم من طهارة المرأة.
عموما ظل يلح علي حتى أقنعني بالذهاب إلى المسجد، لكن المصلين استوقفوني بحجة أنني عارٍ، فأمسكوني ولم يفلتوني إلا بعد أن ألبسوني ثوباً يسربلني حتى قدمي، يومها هربت، وتوصلت إلى اتفاق معه، أن أُبقي على الثوب الذي أبغض، مقابل أن أسمح له بالصلاة وقتما يشاء، وحيثما أراد.، ولكن خارج المسجد.
رومانسي هو ويحب فلسفة الأمور أحياناً، فمثلا عندما نمر بطريق الجسر، يقف متأملا البحر ويقول إنها دموع المدينة، يضحكني قوله، فأخبره بأنه فقد حاسة الشم لا محالة. يتجاهل سخريتي، ويبدأ الغناء بصوته الرخيم، فأصم أذني لأسمعه بشكل أعمق.
الليلة طفنا شوارع المدينة، إنها ليلة باردة، واستثنائية، فالكهرباء لم تنقطع، يافطات المحلات ولوحات الإعلانات تغسل الطرقات بأضواء النيون، المركبات تقطع الشارع جيئة وذهابا دون هوادة.
رغم نوبات السعال التي انتابت رفيقي، دخنت الكثير من أعقاب السجائر التي جمعتها طوال النهار.
لسجائري الليلة طعم لذيذ، ارتشفتها لآخر نفس، واستمتعت جداً بإرسال سحب الدخان على المارة، وعلى الوجوه المطلة من شبابيك السيارات .
وجه وحيد من تلك الوجوه، جمدتني نظراته، تأملني ذلك الطفل، بمزيج من الرعب والخجل. سرت في جسدي رعدة،
صرخ رفيقي ” الحق بابنك”، تسمرت مكاني، راقبت كيف ابتلع الطريق السيارة التي يستقلها.
كررها اللعين”ابنك”. صممت أذني، ولكنه كان عنيدا جدا هذه الليلة، أصر على ترديدها في أذني، في كل مرة بشكل أعلى وأعلى. صرخت في وجهه، لكنني لم أستطع إسكاته، أخذ بصرخ وأنا أصرخ، لم أعد أحتمل صراخه،
هربت بعيدا، ركضت بأقصى سرعة في الاتجاه المعاكس للطريق الذي سيأخذني إلى ماضيّ.
الصوت يلاحقني، والأضواء تعمي عيني، شعرت أن الدنيا تدور من حولي، في لحظة، باغتتني سيارة مسرعة، فوجدتني أطير في الهواء،، أغمضت عيني ،انطفأت المدينة، فشهدت حينها موت رفيقي.