كعادتها في الصباح..تمرُّ الدقائقُ
في لذة الفجر..
كسلى .. مبللة بالنعاسِ،
وعقلان ..
يشعرُ بالبردِ فوق الرصيف وأشياء أخرى
ويمسكُ صرة أيامه اليابسات
وفوق الرصيف يغني:
ألا يا صباح الرضى – يا صباح الملاح..
ويطعمُ هرته ما تبقى من العيش والملح
والذكريات..
ويحلم بالنوم في بيت عمته
خلف خطِّ التماسِ،
وكأسٍ من الفجرِ ساخنْ ..
ويهربُ من طلقة عابرةْ..
وبالقرب من نقطة الصفر..،
يولدُ عقلان من حجر في الرصيف
ويكبرُ فيه
ويفرشُ معوزه وينام..،
يُعرعرُ للحربِ..،
ينظرُ نحو القريب البعيدِ..،
ويلقي السلام..،
على ما وراء المدينةِ..،
ثمة دبابةٌ ساهرةْ..
وعقلانُ متهمٌ بالحنين ..
ومتهمٌ بالجنونِ ..
وبالذاكرةْ..
سيجتاز
عشرين مترا من الدم
في غفلة من عيون الحصار،
وينجو
من الآخرةْ ..
أناديه: عقلااان ماذا ترى..؟
دماً في الرصيف.. !
وماذا ترى..؟
دماً في الرغيف.. !
وماذا جرى.. ؟
يا لطيف.. ! يا لطيف.. !
جرى أحمراً أحمرا..! يا لطيفْ.. !
أناديه … يصرخُ..
( لا شيءَ إلا دمٌ سال للمرة العاشرةْ.. !)
.. وعقلان بقعةُ دمْ ..
ينامُ على حجر في الرصيف
فيركله العابرونْ..
تمر القذائف من جنبه في الرصيف
تدور المعاركُ من حوله في الرصيف
وعقلانُ..
يبحثُ عن وطنٍ صالحٍ للجنونْ
ويكسرُ في كل يومٍ صنمْ..
وقرب الركامِ الذي كان مقهى
سيسمعُ شيئاً من الجدلِ اللإراديِّ
ما بين نادلهِ والزبون
وفي ظلِّ مدرسةٍ في المدينة لم يبق منها
سوى ضحك طلابها يلعبون
وصوتِ الإذاعة فرحة من جاوبوا الاختبار
وشيءٍ من الغزلِ المدرسيِّ
كأن تستعير الفتاةُ كتاب الفتى
ثم تسرقُ من درج عمتها أحمر الشفتين
لتتركَ شيئاً – يدلُّ على أنها ذاكرتْ –
في الكتاب المعارْ
بقايا مراهقةٍ في الجدار
ارتعاشةِ طالبةٍ أبصرت قلبها حافيا في النهارْ
كتاب النصوص الذي ظلَّ منه ” قفا نبكِ ”
يا آخر الواقفين على كلِّ دارْ ..
يفكِّرْ…
كيف يعيد بناء المدينة من حجر شاردٍ
في الجبال
ومن صورةٍ بقيتْ في الخيال
يعيدُ الشوارعَ مملوءةً بالزحامِ
ومملوءةً بالهوى..
والبيوت.. كعادتها لا تنام
ويفتحُ نافذةً للجنوبِ.. ونافذةً للشمال
ويرسمُ في أفقها قمرا
ناعسًا كالغزالِ .. ونجما صغيرا
يدلُّ على كلِّ شيء… سواه
ويغرقُ في رسم منزل من أطعمته أصابعها ذات ليل
وقالت بكل أنوثتها : هيت لكْ..
.. وعقلانُ ليس نبيًا..!
ولكنه حينما كان طفلاً رأى دهشة في السماءِ
فضمته جدته: لا تخفْ .. لا تخفْ ..يا بنيَّ
هو الله مكتملاً في المساء
فكذَّبه الأصدقاءُ
وقالت له امرأة في الطريق
إلى الفجر :
يا ابني يراه المجانين والأنبياءْ
إلى الآن.. يحرسُ إيمانها بالجنونِ..
ويركضُ بحثًا عن الله بين عيون النساء
وعقلانُ متهمٌ بالجنون..،
وبالله..،
والعيشِ والملحِ
والأبرياء
وبالأمس قرب الشظيةِ…،
شاهدَ دهشته تلك بين الدماءِ
فصاحَ : هو الله مكتملاً في الدماءْ
ولم يرتكب غلطةً..
كان يصرخُ في وجهِ من كفروه
” ونحن لنا حقنا في البقاء ”
له الآن عقلان ..
عقلٌ قريبٌ.. رماه
فأصبحَ مستودعاً للخرافةِ
ممتلئاً بالخرابِ
وعقلٌ بعيدٌ
يحاول فضَّ النزاع الوجودي
بين الطبيعي والماوراء…
وعقلانُ كان نبياً..
ولكن نبوءته علقتْ في السماءْ..
وعقلانُ.. لا شيء.. في زحمة العرس
والموت
والعابرين
وعن ظله في الرصيف يدافعْ..
وعقلان ذاكرة الأمس
لم يعترف بالحصار
وجغرافيا الحربِ
مازال يذكرُ منزلَ عمته جيداً
بابها الفجر
شباكها قمرٌ في السماء
وشرفتها من حنين المُزارعْ..
ومازال يذكرها جيداً
إن شمسا تطلُّ على حزنها كلِّ يوم
وتقرع أبوابها في الصباح
فهل أخطأت؟..
وينظرُ نحو القريبِ البعيدِ
ويصلحُ بوصلة الشمسِ
عن تهمة في الجهات يدافعْ..
ويبحث عن خللٍ.. في النجوم
ويصلحه
بالحنين المضارعْ..
وينظرُ نحو القريب البعيدِ
ويبحثُ بين ركام المدينة
عن لغة للكتابة
يبحث عن دفترٍ وأصابعْ..
وعقلان ثار مع الثائرين
وقاتل في الحرب
ضد الجميع
فصار نبيَّ الشوارعْ…
” ومن شهقةِ الموت هم يولدون
وفي عدم هائلٍ يدخلون
يموتون
لكنهم يولدون
أولئك من يحلمون
بلا حلم أنت لا تستحقُّ الحياة
فلا تدخل الحرب إن لم تنم جيداً
ليست الحربُ لُعبةْ.. ”
يقولُ .. ويجمعُ موطنه وسط عُلبةْ..
ليجعله صالحاً للجميع
وعنه يُدافعْ..
وعقلان..
يبحثُ عن رأسه
بعد كل قذيفةْ..
ويبحث في نفسه
عن وطنْ..
وعن أغنيات لطيفة..
ويكسرُ في كل يوم صنمْ..
وعقلانُ مُتهمٌ مُتهمْ..
وعقلان أكبر عاصمةٍ للألمْ..
وعقلانُ مستبعدٌ من جميعِ الدفاترِ
لا ذكر لهْ…
في كشوفِ الحكومة أو شجر العائلةْ..
وفي دفتر الله ضمن الثلاثة
دون قلمْ..
وعقلانُ في كل شيءٍ عدمْ..
وعقلانُ آخرُ ساريةٍ للعلمْ..
وعقلان ليس أحدْ..
وعقلان صورة هذا البلدْ..