خرج من منزله بطلته المكسورة ’ ووجه شاحب ’وبشرة مغبرة’وعروق ناتئة في كل جسده ’ وملابس رثت على حالها و حاله من ديمومة الالتزام على هذا الجسد …….تتقاذفه أزقة الحي الضيقة ’و مقاهيها الخاوية إلّا من أناس ضاقت بهم الأرض بما وسعت . أكواب على الطاولات خاوية منذ زمن طويل ‘ وأكواب شاي أخر مترعة بالشاي الأحمر نسى طالبوها أن يشربوها لازدحام عقولهم بمتطلبات العيد الزاحف إليهم بموعد غيرمحبب. أتجه إلى محطة الحي ……هناك تتساوى الهموم و تتناسى. أهل الحي يفترشون الأرض الترابية’ وحصوات منتشرة هنا وهناك تنحت على أجسادهم أشكال الحاجة و العوز.
في الأيام العادية يهرعون إلى المحطة بعد صلاة العصر ’أما اليوم فبعد صلاة الغداء مباشرة تلبسهم الأحلام أن يفوزوا بكرسي على حافلة النقل البري ذي الأجر الزهيد . في الأيام العادية قد يسمع غناءٌ لحجيٌ راقص ’ وتصفيق من الحضور يريحهم قليلاً مما هم فيه …..اليوم لا تسمع غناءً ، فالعيد ألجم الشفاه حتى من الكلام . النفس تسبر في متطلبات العيد إلا من غناء حزين يتردد صداه في كل بيت من بيوت الحي , إنّه بكاء الأمهات يصدحن به بعيداً عن أطفالهن ’و أزواجهن. فالبكاء صار متعة البؤساء في هذا الحي .
الجمع القفيرة تشخص أبصارهم .. الطريق يتراقص لهم مشكلا لهم حافلة النقل البري ,حلما يحلم به كثير من الحضور .
وفي هول هذا الازدحام البشري تقف مجموعة من الشباب أنهكوا أنفسهم في حصاد الزرع وبيع البطيخ والقصب والقات كمؤجرين همهم ريالات قليلة تسد الحاجة . تناسوا شهاداتهم الجامعية ,هنا فقط يسمع هسيس نكات ’وضحكات مكتومة ’ إحداهم يحلم ببنطال أخر موضة ’وآخر بقميص آخر موضة ’ تجهش المجموعة بضحكات خافتة . الجموع الجاثمة تشخص أبصارهم بالطريق الإسفلتي….وفجأة تسمع صوت حافلة النقل البري الموغلة بالقدم .
تتقافز الجموع من مجاثمها’ يثار الغبار ’وتتزاحم الأجساد المتعبة في لحظة جحيمية مهولة للفوز بكرسي متهالك زهيد الأجر بقيت نساء لفظهن الزحام ’تترقرق أعينهن بالدمع ، يذهبن لتوقيف سيارة عالية الأجر ’ نساء أخريات يرجعن محروقات القلب .
ظل هو دون هدف محدد ’ لا يعرف ماذا يعمل ؟!
أين يذهب ؟!
هزت زوبعة باردة’ حركت أجهزة جسده جعلته يمشي سالكا طريق الحي . الشمس من ورائه راسمة جنازة لهذا اليوم الذي تمنى أهل الحي أنه لم يأت أو لا ينتهي أبداً ’فالليل القادم عذاب طويل لأهل الحي .
يصل الحي ’يقف أمام الفرن ’ يدخل يده يخرج كل ثروته ’دون أن ينظر إليها’ يعطيها صاحب الفرن . يحمل حبيبات الرغيف ’ يهرول مسرعاً إلى البيت ’ يأخذ الباب بيده ’ فالباب يؤخذ بالكامل في الدخول ’والخروج ’أركاه بحجرة كبيرة ’حتى يقي أطفاله برد هذه الليلة . تخاطف أطفاله الرغيف من يده ’وراحوا يغمسونها في طاسه الشاي …لم يحزنوا أن أباهم لم يدخل عليهم بملابس العيد…..
نام الأطفال ..
تناوم هو ’وزوجته ’فأي كلام ما هو إلا حناجر باكية ’واعين دامعة ’التناوم ولا شيء غير التناوم ’بلسم لهذه الليلة الحزينة . البرد الغارس دثرهما بالنوم ..هو لم يطل نومه كثيراً ’لسعات حلم تؤرقه .
قام تتخبطه جدران غرفته الضيقة ’فهو منهك القوى’منذ يومين لم يتناول الطعام ’يتعذر لزوجته بالشبع الكاذب ’وبالأكل عند الأصدقاء ’ مشى إلى المطبخ الخاوي إلا من أوعية قليلة لم تستعمل كثيراً ’ أخذ كيساً كبيراً’ فتح الباب التهالك خارجا…رمى بنظرات’ فإذا الحي حطام أسود لا يتنفس أبدا .همّ بالرجوع ’فالليلة باردة ’وجسده متعب لا يستحمل هذه الرحلة الطويلة ’والمغامرة الخطرة . …… تذكر أطفاله………هرول سريعا , تحثه أمنيات العيد..’وبعد عناء المشي الطويل ’وصل ’ فاجأته أضواء الحي الراقي ’بكثرة ألوانها كأن الحي لم تغب عنه الشمس’البنايات شاهقة ’ والنوافذ زجاجية لامعة ’وستائر مخملية تتراقص من وراء الزجاج’المزهريات تزين الشرفات . السيارات منتشرة بانتشار الذباب قي حيه ’الأشجار نضرة ’أفنانها راقصة ’أزهارها ضاحكة ’بعكس حيه الذي أشجاره عجفاء ’يابسة . وبعد تجوال عينيه في جمال هذا الحي..رأى مبتغاه …هرع مسرعا ’أخرج الكيس ..طلقات نارية تخطى جسده ’ صفارات الإنذار لسيارات الشرطة ..أياد تدفئ نفسها في جسده المتعب النحيل .أغمى عليه..حشو جسده داخل سيارة كلمات تتطاير من أفواه منعمة : مجرم ’سارق ’إرهابي إرهابي ’تكررت كثيرا . رموا به في غياهب السجن. انبثق الفجر من بين براثين الليل الأسود ’دبت الحياة فيه ’ جلس ’وراح يهذي :
هذا لحم أخذ منه جزء صغيرا بشوكة ناعمة ’وهذه دجاجة كاملة لا يحتاجونها ’ وهذا رز فاخر ’وهذه حلوى لذيذة ..كلوا ما تشتهون ’و اعطوا جيرانكم ’فالرسول أوصى بسابع جار ’ كلوا من زبالة الحي الراقي ..لم ينقص منها شيء ‘ أما الآن فدعوني أنام فأنا متعب .
ونام نومة أبدية في فجر عيد بارد