رب ضارة نافعة/ بقلم:عبد السلام كشتير (المغرب)

خطفت ابنها بحركة لا إرادية وهرولت به إلى خارج البيت .. وصلت إلى الشارع تحمله بين ذراعيها وقد ارتخت أطرافه كقطع قماش متهلهل ، وتلاشى جسمه بسرعة ككومة لحم بدون هيكل عظمي . لقد نالت منه الحرارة وألهبت كل جسمه الصغير الغض ، حتى لم تعد تقوى على تقريبه من بشرتها لشدة سخونته .. صارت تبحث بعينيها عن سيارة أجرة من بين أضواء السيارات التي تعبر الشارع بسرعة والحزن والخوف يطوقانها ، وهي تنادي بأعلى صوتها كلما اقتربت منها إحدى السيارات ، وتعمل على رفع طفلها إلى الأعلى قليلا علها تجد قلوبا رحيمة تسمع نداءاتها وترق لتوسلاتها ..
– طاكسي ، طاكسي …
تذكرت هذا الحدث كما لو أنها تعيشه اللحظة بكل تفاصيله .. وولداها يلعبان بجوارها في شرفة البيت بحب وإيخاء .. فجأة لمحته في الشارع العام يسير بخطى حثيثة كمن يتعجل للحاق بشيء ما لا يود الانفلات منه . ذبلت أناقته المعتادة حتى بدا لها شاردا منشغلا بأمر ما . ينظر نحو الجهة التي يسير إليها ولا يلتفت إلى غيرها طيلة اللحظات التي عبر فيها الشارع أمامها .. تحركت تلك الأحداث البعيدة في ذاكرتها لما كانا زوجين يجمعهما سقف ذلك البيت الكئيب . أعادت ترتيب المتاهة التي قُذِفت فيها تلك اللية قسرا ودون أن تعي نتائجها أو تستحضر المخاطر التي حفتها ، بعدما امتنع هو عن القيام بواجبه كأب نحو ابنه المريض الذي تلفحه حرارة الوعكة الصحية التي ألمت به في غفلة منهما .
تابعت حركته في الشارع حتى غاب عن عينيها بين المارة .. فنقلت نظراتها إلى إبنيها الغاصين في اللعب غير مباليين .. تذكرت صاحب سيارة الأجرة الذي كان فظا معها ولم يرق لحالها فضاعف ثمن توصيله لها إلى مستعجلات مستشفى المدينة .. لم تتأخر كثيرا في مقابلة طبيب المداومة الذي اهتم بالصبي المريض وبأمه كعادة الأطباء . أمطر الأم الشابة بسيل من الأسئلة حول صحة الطفل ، وصحة والديه ، وهو يبحث في مقومات الوراثة والظروف البيئية التي يوجد فيها الصبي وغيرها من المؤثرات التي قد توضح بشكل أو بٱخر أسباب ما ألم بالصبي المريض ، وهي تجيبه بصوت يختلط فيه البكاء بالكلام والشهيق .. كان الطبيب رحيما ودودا حاول بما أتيح له من وسائل طبية تخفيف سلطة الحرارة التي تمكنت من الصبي ، ويهدئ من روع الأم التي كادت أن تفقد وعيها كلما لاحظت حالة إغماء فلذة كبدها بفعل تأثير الحرارة عليه . أنهى الطبيب مهمته بنجاح ، واستعاد الصبي وعيه بالتدريج ، فرخص للأم بأخذ طفلها والرجوع به إلى المنزل بعدما دون لها في وصفة طبية كل حيثيات الوعكة الصحية والأدوية الموافقة لمثل حالة ابنها ..
تنظر إلى الشارع المكتظ بالمارة وهدير الأصوات ينبعث منه ، تختلط فيه منبهات السيارات بنداءات بعض التجار ليستميلوا الزبائن لاقتناء بضائعم .. شردت قليلا وتاهت في ذكرياتها بين ماضيها الأليم وحاضرها المختلف والهادئ ، وحاولت بناء مقارنة غير متكافئة بين الزمنين .. زمن مضى بٱلامه ونكساته ، وزمن حاضر تعيشه عاديا كما تمنته ..
أكمل ابنها منه اليوم الثلاث سنوات ، بينما ابنها من زواجها الثاني لا يتعدى عمره عام واحد .. تمر الأيام بسرعة وتتبدل الأحوال تبعا لذلك .. تبتسم بهدوء وتحس بحرارة لذيذة تجتاح جسمها لما تذكرت سيناريو اللقاء الذي جمعها به .. لقد كانت مضطربة وجلة لا تفكر إلا في العثور على صيدلية تقتني منها ما خطه الطبيب من أدوية في ورقة الوصفة التي تمسك بها .. تبكي بحرقة وبصوت مرتفع وتنتظر الفرج في ليلة طال أمدها واشتد سوادها وتقلصت فرص الخروج من محنتها .. فجأة توقفت سيارة أمامها ، فتح السائق زجاج النافذة اليمنى وهو يحاول تهدئة الأم الشابة التي استمرت في البكاء غير مكترثة بكلامه ، فهي تعلم أنها أصبحت فريسة سائغة لكل متربص بأمثالها تحت جنح الليل ..
رفع الشاب صوته قليلا وهو يقدم خدماته لها ..
– السلام عليك أختي مابك؟ لماذا أنت هنا وبهذه الحالة؟ هل حدث مكروه لابنك؟
– أرجوك أخي أتركني وحالي ، أنا أنتظر سيارة أجرة لتنقلني إلى بيتي . انصرف أرجوك لست من أولائك اللائي تبحث عنهن !
– لن تجدي سيارة أجرة في هذا الوقت من الليل .
توكلي على الله ، إن أنت وثقت بي سأوصلك إلى حيث تريدين .. لا تخافي .. تفضلي ..
تريثت قليلا قبل أن تقدم مذعنة على فعلتها وتستجيب لعرض هذا الشاب الغريب .. فهي في حاجة ماسة للمساعدة ، وحالة ابنها تستوجب الإسراع في كل شيء ليتجاوز المرحلة الحرجة التي يمر منها ..
لم يبخل الشاب الغريب في مساعدتها . بحثا عن صيدلية الحراسة لاقتناء الأدوية المطلوبة ، ثم عرج بها إلى منزلها .. لم يبرح مكانه بعدما أوصلها ، إنما بقي بالجوار علها تطلبه في خدمة أخرى . هكذا توقع الأمر مستجيبا لإحساس اخترق قلبه قبل عقله ، فانتظر دقائق معدودات كانت كافية ليعرف طبيعة علاقة الزوجة الشابة بزوجها بعدما انفجرت في وجهه تعاتبه وتلومه عن عدم تقدير مسؤوليته تجاه ابنه وزوجته ، وكيف تركها تغامر في هذا الليل البهيم تبحث عن مخرج لمحنة ابنها معرضة نفسها لكل أشكال المخاطر .. فاجأه ما تناهى إلى مسامعه ، أو على الأقل فهم مما سمع وماوصله من أصداء الخصام نوعية العلاقة التي تجمع الزوجين ، وتأكد أن الأمور ليست على مايرام بينهما ..
انقبض قلبها قليلا لما رأته يمر بالشارع أمامها ، وجالت بعقلها أشياء كثيرة تشابكت فيها بدايات اللقاء مع مشاكل الإنفصال وتبعاتها .. اطمأنت نفسها وهي تتذكر تفاصيل ما حدث لها تلك الليلة ، وأن ذاك الحادث الذي اعتبرته مشؤوما كان مكتوبا ومقدرا لها ويحمل في طياته أشياء غيرت حياتها ..
لم يغتنم الشاب الغريب الذي قدم لها يد المساعدة الفرصة ليوقعها في المحضور ، بل كان إنسانيا في كل تصرفاته . لم يرهقها بكثرة الأسئلة عن أحوالها وعملها وهاتفها وكل ما يمكن أن يحصل عليه كمقابل للخدمات التي قدمها لأم شابة متأزمة لم تجد بدا من قبول مساعدته لها ، وهما في سيارته طيلة المدة التي قضياها معا تلك الليلة الفريدة …
بقي عالقا في ذهنه مقر عملها ، كخيط رفيع جعله يتذكرها ويهفو إلى السؤال عنها عله يطفئ نار الاشتياق لها .. لقد تعلق بها منذ تلك الليلة ولم يتمكن من البوح لها بسره .. فأبقاه طي الكتمان ، ولم يجد السبل الناجعة لتصريفه لتعلمه هي ..
– لكن كيف السبيل إلى قلبها .. وهي في عهدة رجل ٱخر ؟
يتساءل مع نفسه عله يجد ما يستند عليه ليستريح ذهنه من التفكير في تلك الأم الشابة ..
– السلام عليكم ، من فضلك أسأل عن السيدة فلانة ، هل يمكن التحدث إليها ؟
– من أنت ، ولماذا تسأل عنها؟
– أعتذر سيدي ..
يجيب المسؤول عن الاستقبال في مدخل المؤسسة التي تعمل فيها الزوجة الشابة ، بعدما فاجأه بهذه الأسئلة ..
– أنا أحد أقاربها .. ستعرفني حينما تراني ..
ظهرت السيدة في بهو المؤسسة بعدما نودي عليها لتلتحق بالزائر .. وقفت هنيهة وهي صامتة إلا من ابتسامة رقيقة ، ثم بادرته بالسؤال ..
– مرحبا كيف حالك ، تفضل لنجلس هناك ..
أشارت إليه بيدها لينسحبا إلى قاعة الانتظار المفتوحة على مدخل المؤسسة .. وليتحدثا بطمأنينة بعيدا عن أسماع موظف الاستقبال أو كل من يلج المؤسسة ..
لم تتذكره في بداية الأمر ، إنما بمجرد ما سمعت بداية قصتها معه حتى توردت وجنتاها وزاد خفقان قلبها ، وهي تثني عليه وعلى فعله الإنساني الذي لن تنساه أبدا ، بل اعتذرت له كونها لم تتمكن من الاتصال به ، على الأقل لتشكره على صنيعه معها في تلك اللية المشؤومة .. فقد نسيا في خضم الانشغال بمرض ابنها ، تبادل أرقام هواتفهما أو أي وسيلة للتواصل بينهما .
اطمأنت لزائرها ، وتحدثا عن أشياء كثيره لعل من أهمها أحوالها العائلية ، خاصة بعدما ذكرها بما وصله من بيتها من خصام وجدال وأصوات مرتفعة تلك الليلة الحزينة . لم تخف عنه ما عاشته مع زوجها والمٱل الذي وصلت إليه علاقتهما الزوجية .. أنهت استقبال زائرها بلطف ولباقة ، وانصرف هو مبتهجا بهذا اللقاء الذي تيسر له بعدما مرت كل هذه الشهور على مقابلتها في ظروف صعبة ..
داهمها نفس الخفقان الذي شعرت به لما زارها الشاب الغريب في مقر عملها . أفرجت عن ابتسامة أشرقت معها ملامحها واستجابت لها جوارحها وهي تتأمل ابنها الصغير الذي يقترب في شبهه من أخيه الأكبر وتوشوش مع نفسها ..
– لقد شاء القدر أن يأخذا مني شبههما ويبدوا أخوين
شقيقين ..
ثم تتمتم ببعض الدعوات والابتهالات شكرا على الجزاء الذي كان من نصيبها بعد ذلك الحادث المروع .. لقد تغيرت حياتها واستقر ذهنها وارتوت من معين الحب الذي حرمت منه طيلة فترة من الزمن كان الهم والغم أثاثها وموضوعها .
استفاقت من شروذها على أنغام نداء زوجها وهو يزف إليها بخبر غاب عن بالها لحظة تذكرها للحدث المؤلم/السعيد ..
– مرحبا حبيبتي ، أنا في الطريق إلى المنزل ، جهزي نفسك والولدين لنتناول وجبة العشاء في مطعمنا المفضل .. ونحتفل بعيد ميلاد ابننا الذي أتم عامه الثالث ..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!