ظنت أنها ألقت بشباكها عليه وأصبح في نظرها الطريدة السهلة. أو هكذا لاحت لها الصورة المستقبلية لعلاقتها مع جاسر.. حينما رمقته في زحمة حفل زفاف أحد الأقارب. لم تتركه للحظة دون أن تراقبه عن بعد أحيانا أو تختلق الدرائع لتتحدث معه ولو لثوان، وهي تلقي بكلمات على مسامعه أحيانا بلا سبب يذكر بغرض دغدغة مشاعره .. فقط لأنها وقعت تحت تأثير تلك الأحاسيس المفاجئة التي انتابتها لحظة رؤيته وهو يلج السرادق المخصص للمدعويين لحفل الزفاف .
لم يبخل عليها هو الٱخر بكلمات مجاملة وتعبيره عن إعجابه بقفطانها وجمالها وحلاوة ابتسامتها .. هو يعرفها مسبقا، فهي إحدى قريباته تعيش مع أسرتها في المهجر وتزور بلدها الأصلي كلما أتيحت الفرصة لذلك، أو لتلبية دعوات العائلة لمثل هذه المناسبات .. وهي الٱن تحضر زفاف ابنة خالتها وزميلتها في المدرسة التي قضت فيها السنوات الأولى قبل أن تقرر أسرتها الإغتراب في إحدى الدول الأوربية ..
اغتنمت فرصة مابعد العشاء لتدعوه إلى الجلوس في إحدى زوايا الحديقة التي تجري فيها مراسيم حفل الزفاف. تحدثا معا طويلا وجددا تعارفهما، وهما يقربان المسافات الزمنية التي باعدت بينهما منذ أن هاجرت أسرتها.
لم تكن مدة عطلتها طويلة، ثلاثة أسابيع على أبعد تقدير، وكان عليها أن تسابق الزمن في كل شيء، وهي تلقي بطعم التحاقه بها إلى الدولة التي تستقر فيها مع أسرتها، وتخرج حلمه بتغيير أوضاعه المادية والاجتماعيه إلى الوجود، وهى تعي جيدا نقطة ضعفه هذه. هو الذي تحذوه الرغبة في عيش حياة من نوع ٱخر، لا يتوانى في التعبير عنها صراحة، والتي لا تستقيم في نظره إلا بالاغتراب ..
اتفقت الأسرتان حول كل شيء وحددتا موعد الخطوبة والزفاف والحفل وكل ما يلزم لمثل هذه المناسبات المتميزة. كانت السرعة هي المحرك والمحفز لإخراج قصة الحب القوية التي جمعت أريج وجاسر، وتحقيق مبتغاهما في أن يكملا مسار حبهما المفاجئ، حتى أن قصتهما أصبحت حديث العائلة والموضوع الأكثر تداولا في مجالسها.
كل شيء تم على أحسن حال وكما رجته العائلتان وتمنته، ورحل جاسم مع زوجته..
أعجب كثيرا بالحياة التي تعيشها أريج في المهجر حيث تعمل في مؤسسة راقية، مما يبيح لها أن تحيى مستوى معيشي رفيع لعل من أهم سماته الأجر المحترم والشقة الرفيعة والسيارة الفارهة.
لم تمر إلا أيام قليلة على استقرار جاسر في بلاد الغربة حتى لاحظ أن علاقة زوجته به بدأت تظهر عليها علامات الفتور والإهمال، دون أن يكون هناك سبب بين. حاول أن يستجلي الأمر في البداية، لكنها لم تكترث بأمره وهي ترجع ذلك إلى التعب الذي يصيبها في عملها..
تمر الأيام والأسابيع وجاسر يكتشف حقيقة زوجته وإهمالها له دون سبب، والبرودة التي اجتاحت علاقتهما الزوجية، وأحيانا الجفاء والصد غير المبررين. صارت أريج تتأخر خارج المنزل بعد انتهاء فترة العمل بدريعة أنها تلتقي مع صديقاتها وأصدقائها في فضاءات ألفوا الالتقاء فيها وتبادل الأحاديث والأخبار والاستمتاع بأجوائها. بل بدأت أريج تملي عليه شروطها وتحدد له مسار حياتها وهي تنبهه بعدم الاقتراب منها باعتبارها حرية خاصة لا يحق له التدخل فيها. أصيب جاسر بذهول وباضطراب بعثر كل تلك المشاعر التي يكنها لزوجته والتي جعله يقترب منها أكثر ويحس بتوحد قلبيهما وأفكارهما ونظرتهما للمستقبل، خاصة وأنهما يحملان نفس المستوى الأكاديمي والعلمي، وينتميان إلى نفس العائلة.
اختلط على جاسر الأمر، وأصبح رهينة أفكار سوداء أبعدت عن جفونه النوم لليالي متتالية حتى أصبح يعيش إرهاقا مستمرا ..
انتظر طويلا نتائج المقابلات التي أجراها أمام لجن امتحان عله يحصل على وظيفة تحرره من شباك أريج ومن قبضتها التي أحكمتها على رقبته منذ أول يوم رأته فيه. مازالت همساتها وكلماتها العذبة ترن في أذنيه وهي تعده بغد أفضل وبحياة يكونا فيها الزوجين والحبيبين والعشيقين، وبإيجاز تلك الحياة التي كان يحلم بها. اختلطت الحقيقة بالحلم وأصبح في حيص بيص من أمره، يعيد قراءة كل الخطوات التي أقبل عليها منذ أن تعرف على أريج وهو يطرح السؤال الجوهري الذي غاب عنه منذ أول خطوة : لماذا قبلت بأريج كزوجة وبهذه السرعة دون أن أطرح على نفسي أي سؤال؟ هل أخذني حلمي بحياة أفضل في المهجر، ووجدت في أريج المفتاح لذلك؟
وهل كان لأريج خلفيات لم أستطع إدراكها من وراء زواجها مني؟
هل وقعت في شباك حبها وأنا تحت تأثير وقع أسطورة الهجرة كمدخل لتحسين الأوضاع الاجتماعية؟
لن أرضخ لنزواتها ولا لقيودها، ولن أقبل بتقمص دور تلك الدمية التي يحركها صاحبها بأنماله تبعا لأهوائه وفضوله ورغباته. سأمزق شباكها التي ألقت علي ولو كلفني الأمر العودة والتضحية بكل شيء…