يومًا أعودُ وأدفع الفكرة ضدّ مجرى الزمان، وأبلغُ بدء الوجودِ، وأوّل حيٍّ صغيرٍ من الكائنات.. وعي نفس واعتراء قلق.
إن ما بداخلي الآن يشبه ما تبقى في كوب قهوة، دائرة سوداء ثقيلة، لحن عصي بقي على مسرح انتهى حفله، وأصبح ذكريات!
قول الأشياء التي تنبعث فجأة بعد خمودها، وتشعر بها في حال لحظتها، ثم لا تعرف كيف تعبر عنها ومتى؟ بل تحاول كبتها أو قمعها… نحن لا نملك سوى هذه اللحظة وهي نعمة وبركة من الله، هي كل الوجود…
أمور تافهة تشبه إلى حد ما خربشات رسام لا يعي ما يرسم، بينما يثق باحتمال بما هو أكبر من مجرد خربشات ، وما هو أقسى من هذا يشبه احتمال محارب كثيراً ما ألقى نفسه في الوغى ،وحينما ألقى سلاحه، وهمّ بخلع بزة المحاربين التي طالما حارب بها وجد يده تنشب في أحد الأكمام ليسقط صريع ذلك الحمل!؛ سقط يبكي ثائراً غاضباً كما لو أن هذا التعرقل البسيط يهد ما بناه، وينغص كيانه دفعة واحدة أعجزت من هم أقوى !
ينتشلنا السفر من دوّاماتنا الصغيرة، يشرع نوافذ نبصر منها اتساع العالم، يُذكّرنا أننا جزء لا متناهي الضآلة في كتلته اللامتناهية الضخامة، يدعونا ألا نهرق بغباء عمراً ثميناً يتلاشى بسرعة محزنة مع دوران الكرة العملاقة، في أقلّ من برهة من عمر الكون السرمدي.. ثم يأت صوت خفي: لا تبحث كثيراً، ففي النهاية، ستجد أن ما تبحث عنه موجود في داخلك، جنّتنا الأرضية داخلنا، ولكننا في سعينا المحموم لا نرى الأقرب، وعيوننا دائماً معلّقة بالمدى البعيد!!
حين تضيق بنا الدروب… وتختنق الحنجرة بالكلمات… يبتلع الخواء كل شيء… تتساوى الأشياء جميعاً، تكتسب كلّها لوناً واحداً… حينها… منتهى الوحدة أن نعتصر أذهاننا لنتذكّر شخصاً واحداً… واحد فقط… يمكننا أن نلجأ إليه… نبكي على كتفه… دون أن يسألنا لماذا… نهذي طويلاً دون أن يقاطعنا… نلمس صدق أحزاننا في عيونه… نبلسم عذاباتنا بهمساته!!
“يستطيع الإنسان أن يحترق وهو جالس إلى جوارك دون أن تلحظ.. في الشارع أو على المقهى، في بيته بين أعداءه أو أحبّته، ولا يترك ذرة رماد على المقعد.. تلك هي أزمة الإنسان منذ أدرك كم لهذه المخابئ في جوفه أن تَتسَع”
كنت قد بلغت من العمر ما لا يمكن معه أن أؤمن بإمكانية الهرب. لكنني عثرت حينها على وهم قديم، وهم العودة، ليس من أجل البحث عن شيء جديد، بل من أجل البحث عن مرسى معلوم، لأنه ليس ثمة فرق بين الرحيل إلى ما هو جديد وبين العودة. لأنك في نهاية الرحلة تكون دوماً أنت ذاتك، تنتظر بوجهك ذاته، بحملك ذاته، بأسئلتك ذاتها، الشيء الوحيد الذي يتغير هو أنه بعد كل رحلة تكون أكبر سناً واقل اهتماما!!
أتأبط الكلام كرجل عجوز يتأبط طاولة في مقهى، والمقهى مزدحم.. عجبا لا يوجد طاولة ولا رفاق.. ها أنا الان منهك مجدداً، حتى أنني عاجز عن النوم رغم شدة التعب، تدور في رأسي ألف فكرة، حتى ليخيل إلي أن العالم الذي في رأسي أكبر من العالم الذي رأسي فيه.. وحيد رغم كل هذا الزحام حولي، كلهم يرون صلابتي.. تلك القشرة السميكة التي أغلف بها نفسي من الخارج، كثمرة الجوز صلبة جدا من الخارج، ولكنها من الداخل هشة، لا أحد منهم يرى هذه الهشاشة التي أنا فيها، كلهم يرون ابتسامتي تلك التي تعلو محياي دوماً، ولا أحد يعلم منهم أني أنتظر أتنفرد بنفسي لأبكي، كلهم يستندون علي، هكذا عودتهم أنا ، أن أكون كتفهم وعكازهم ، ولكن كيف أخبرهم ، أن حتى الأقوياء تجتاحهم لحظات ضعف ، ويحتاجون من يسندهم أيضاً ؟لكني لا أجرؤ أن أبوح بضعفي ، لا يمكن للشجرة أن تقول: أريد أن أستلقي قليلا لقد تعبت من الوقوف .
نظرت في مرآتي فوجدت وجهي ناقصا.. أنا لم أعد أنا!
أحاول أن اهرب من تلافيف أفكاري، فأقبع فيها دون إرادة مني.. لم أشأ لنفسي ذلك.. إنني أحاول دائما أن أهرب منها وأكون متسعاً كبيراً من الانشغال الذي يمضغ الوقت ويلوك الساعات بلا فائدة مرجوة!!
تدريم الأظافر أو تقطيع الشفاه، لا فرق فكلاهما مؤلم، عندما تعشقك الأفكار المرهقة العميقة أكثر من أي شيء آخر.. كلماتي مطر يدق نوافذ عتمتي.. تنشب إظفارها في زجاج نوافذي.. تطاردني.. أيها المطر.. ضمني إلى عباءتك لأصغي إلى تراتيل النجوم وتلاوة السحر.. ولا تدعني إلى صدري المثقل بالشجن!!
إننا نحيط أنفسنا بدرع حديدي.. بقفص وهمي من المعتقدات والعقد المعقدة المعلبة… لكنه مجرد درع.. وهو لا يتمسك بنا، بل نحن الذين نتمسك به.. وحالما نصبح واعيين له سيذوب حالا.. سيموت بمجرد أن نتخلى عنه؟!
التفكير في الأساس ليس سوى فيض داخلي، قد يتحول الى حروف وكلمات في حالة الكتابة، وقد يتحول إلى أصوات في حالة الكلام، لكن عندها قد يتحول إلى هذيان جنوني.. نعم جنوني يشبه تدريم الأظافر!!