كتب:علي أحمد عبده قاسم.
إذا كان الشعر تعبيرا عن الحياة والهموم الإنسانية والتطلعات والمشاعر الذاتية بوصفه القدرة الإبداعية الخلاقة في رسم المواقف ورسم الحياة وعلاقتها بالإنسان فإن لم يكن كذلك فماذا عساه أن يكون
وبين أيدينا ديوان( همس الخاطر) للأستاذة الشاعرة / رينا يحيى والذي صدر مؤخرا عن مؤسسة شعراء نافذة على العالم للثقافة والإبداع .
ضم الديوان ثلاثا وأربعين قصيدة في مائة صفحة من القطع المتوسط
وعند قراءة النصوص التي احتواها الديوان يلحظ القارئ أن الكثير من النصوص انشغلت بالوطن والهم الوطني مما ينم عن شاعرة ترتبط وتهتم بالقضايا الوطنية وقضايا الأمة وبالشأن الإنساني والحياتي فليست منشغلة بالذات والعواطف فقط بل بقضايا كبرى هي الهم الإنساني الوطني العام.
فالديوان غنى لصنعاء مثل الشعراء الكبار البردوني والمقالح وغيرهم وحين غنت لصنعاء عزفت لحن السلام والحب والحلم والأغنيات فصنعاء يطغى على ملامحها الكثير من الحزن والألم.
(( إذا قهقهت جنيات السحاب
تصفق في شارع الأمنيات
وترقص في بركة الحالمين
ليهطل من سحب الأغنيات
حنين الحمام وبوح النسيم
لصنعاء تغريبة الحائرات
فتهيدها حسرة واكتئاب
وترنيمها دمعة الثاكلات
يحط الجمال عليك الخلود
وإن لامستك يد النائبات) ص١١
فالنص يغني للخير والخصوبة والأمل ويتضح ذلك من خلال( إذا قهقهت جنيات السحاب ، تصفق في شارع الأمنيات) وتغني للسلام (( ليهطل من سحب الأغنيات ، حنين السلام)
وتلتفت إلى الحزن الذي يظهر على صنعاء ( لصنعاء تغريبة الحائرات، تنهيدها حسرة واكتئاب ، ترنيمة الثاكلات)) وتعود للأمل بوصفه حياة وإن كل الحزن والألم والفقد سيتحول( يحط الجمال عليك الخلود ، وإن لامستك يد النائبات وتمحين عنك أذى الشعوذات).
ومن خلال النصوص يلحظ أن النص جرئ شجاع يمجد الإنسان ويمجد القيم الإنسانية فالنص متحد جرئ متمرد بروح طامحة لحرية الإنسان.
( سأكتب حتى تموت الحروف
وحتى يذوب مداد النظر
وإن حاز قيدهم معصمي
وإن أسكنوني عميق الحفر
وأنبض حرية في القبور
ففي كل يوم مخاض قمر)) ص١٣
النص فيه تضحية فيه تحد فيه إيمان بمبدأ الحرية وإن ترتب على ذلك القيد والموت فإن الموت حرية وأمل وميلاد (( وأنبض حرية في القبور
ففي كل يوم مخاض قمر).
ومن خلال النصوص يلحظ المتلقي قدر الغيرة التي تفيض بها الذات الشاعرة تجاه الوطن والعبث الذي يمارس على الوطن بالحرب والاقتتال والاستغلال لخيراته وإدخال على الوطن ما ليس من خصوصيته وهويته ليتحول من صورته الحضارية إلى صورة مشوهة فيهلك الحرث والنسل وتسيطر صورة الفساد والظلم فيأتي الخطاب متألما معاتبا ومستنكرا .
(( بحقي على الأرض والساكنين
وحق الحياة وحق الورق
كتبت أعنفكم في العتاب
بحبر دمي ساطع كالشفق
أتأتون في أرضنا المهلكات
تعيثون فيها بكل نزق
تسيمون في حرثنا ظالمين
ليحكى بأن اليمان احترق))ص٢٢
وإذا كانت خطاب الديوان انشغل بالهم الوطني فقد انشغل بالحب المفقود والأمل الذي يعيشه كل يمني صامدا صابرا ليتأتى الفرج والصبر بلغ حدود الخيال والمعقول لاسيما والوطن يعيش مفتقرا للحب وللإخاء فالقضايا التي طرقها الخطاب لم تكن عابرة أو سطحية بل في غاية الأهمية مما يعكس شاعرة مدركة بإحساسها ومعايشتها لما يحدث في وطنها والحب المفقود من أهم القضايا التي يفتقر إليه أبناء الوطن
(( وبكت طيور الارض من أثقالنا
هدت قلوبا كالجبال صخورا
فمتى سنكتب للحياة محبة
تغشى الخليقة محبة وحبورا))٣٦
وإذا كان الديوان قد انشغل بالوطن والهم الإنساني وقضايا الوطن فإنه انشغل بالذات والعواطف برقة وعذوبة وتلك العواطف رسمت قضايا المرأة في ذوبانها حبا أو في خيباتها بعلاقاتها المختلفة بالمجتمع والرجل وما حولها
من حيث الذوبان الرقيق جاء في الديوان.
(( النور يسطع من شفاهك همسة
فيحط حبا يصدق الأسرارا
أنكرت ديواني بدون قصيدة
كتبتك عمرا يسبق الاعمارا)) ص٧
أما من حيث والغياب والحضور فإن الحضور يزيد الذات ألقا وتوهجا والغياب له صورة الحزن والوحشة والشعور بالضعف فثمة روح تملؤنا حياة واكتفاء والعكس
(( وغادرني حين جاء الصباح
وقلبي بيمناه كالمغزل
يقول سأرجع يامقلتي
فينتفض القلب من مأملي
لقد أطفأ البعد دفء اللقاء
لتشعل دمعي بلا مشعل)) ١٦
ثمة عاطفة تفيض ألما بالرحيل والغياب وحين تفرد المرأة جانبا لمشاعرها بمصداقية وجرأة فإنها لاتتحدث عن ذاتها فحسب بل عن المرأة عموما وليست الرومانسية كما يفهمها العوام بأنها العواطف بل الرومانسية البوح عن مشاعر من ناحية الألم والحزن واليأس والتشاؤم واتخاذ مشاعر الملهم الأول للبوح بوصف الألم والمواقف هي زلزال لتفيض الأعماق إبداعا
(( خبأت وجهي في خمارقصيدتي
وطويت شعري في زمان ضياعي
أنا لن أعيش سوى حياتي وحدها
أأعيش نصف العمر في أوجاعي
كيف الحياة وحولي كل فراشة
سور من الأحقاد والأطماع))
في الأبيات محاولة للتحليق ومحاولة للتمرد على الواقع
ومحاولة استغلال اللحظة السعيدة والحياة السعيدة التي لا تتكرر (( أنا لن أعيش سوى حياتي وحدها أأعيش نصف العمر في أوجاعي))
وتتحدث عن العراقيل التي تحول دون ممارسة الحياة السعيدة واللحظة الهاربة التي لا تعود(( كيف الحياة وحول كل فراشة
سور من الأطماع والأوجاع))
ورد بعض النصوص التفعيلة
وهنا يجب أن نتساءل هل نجحت الشاعرة في كتابة قصيدة التفعيلة؟
أولا نعلم أن شعر التفعيلة يأخذ بنظام السطر الشعري بديلا عن البيت الموزون المقفى وتلك السطور تتراوح بين الطول والقصر حسب الدفقات لكل سطر
ويأخذ التفعيلة ويلغي البحر
لغة نصوص التفعيلة مكثفة تعتمد على الحمولات الدلالية اللا منتهية في التأويل وقد تأخذ من الخصائص السردية وغيرها
والصورة في شعر التفعيلة تأتي ما بين الصورة الانزياحية والرمزية
وإذا تأملنا الوحدة الإيقاعية والتي تعد إحدى العلامات لإدراك الشاعر لأدواته يلحظ أن الشاعرة التزمت التفعيلة الوحدة الإيقاعية في كثير في نصوص التفعيلة ففي نص مراهق في الأربعين والذي يقول:
(( في كفه
تمرغ الحلم
وفي العيون
تسكن الحياة
والجنيات في أوراقه
تدور.)) ص25
يلحظ أن النص سار بوحدة إيقاعية موحدة وصافية من البحر الرجز(( مستفعلن))
وفي نص سياف القصائد والتي تبدأ:
(( يا موطني
وغدا القصيد يقودني
لمجاهل الوجدان
لم يمدني حرفا
يرصعه الأسى.))
من خلال النظر في سطور النص يلحظ أن جاءت بوحدة إيقاعية من تفعيلات الكامل متفاعلن
((ياموطني)) متفاعلن
((وغدا القصيد)) متفاعلن
((ويقودني)) متفاعلن
ولم يأت سوى نص غير ملتزم بالوحدة الإيقاعية هو نص” دوحة الغرباء” فلم يلتزم بتفعيلة واحدة
وهنا أود الإشارة إن شعر التفعيلة يلتزم بوحدة إيقاعية لتفعيلة واحدة من البحر بحيث تأتي التفعيلة صافية وليس كالشعر الحداثي الذي لا يلغي البحر والتفعيلة معا و يرتكز على الموسيقا الداخلية
فكان اقتحام الشاعرة للتفعيلة جرأة ناجحة وإن كانت الصورة واللفظ تحتاج لكثير من التكثيف والعمق خاصة وشعر يعتمد على قوة الصورة وكثافة الدلالة بحيث تحمل العبارة والسطر حمولات وشحنات دلالية كبيرة بإيجاز بالرغم من ذلك اقتحام الشاعرة لشعر التفعيلة كان على استحياء إلا أنه ناجحا ويعد تجربة ستأتي بعدها بما أعمق وأكثر تركيزا وتكثيفا.
وإذا كانت الصورة الشعرية(( لغة اللغة او لسانها الصارم الذي يفصح عن مكنونات سرها وأنها آلية الخطاب الأولى لتعميم لذة النص على القراء))
فإن الصورة الشعرية في الديوان جاءت متنوعة تنمو بخيال ممزوجة بالعاطفة والمهارة والثقافة لتجسد شيئا غير مألوف معتمدة على اللغة لتأتي بقالب لغوي وموقف تجسد الموقف والعاطفة
من الصورة التقليدية جاءت متنوعة ما بين تشبيه واستعارة وكناية إلا التشبيه جاء نادر وفي الوقت ذاته مجسدا للموقف وللعاطفة
(( وغادرني حين جاء الصباح
وقلبي بيمناه كالمغزل)) ص١٦
يلحظ أن الصورة جسدت من خلال حالة القلق والاحتراق بالفراق من المغزل الذي لا يتوقف عن الدوران ليس هذا فالتكور فيه مشابهة بصرية ما بين القلب والمغزل لتأتي الصورة بصرية حسية مشاهدة معبرة عن القلق وحقيقة الفراق.
وإذا كانت الصورة كما يقول عز الدين إسماعيل(( بأنها شيء نفسي مدعوم بشيء آخر))
بمعنى حين ترسم فإن لها دوافع وعوطف اخرجتها مجسدا لغة وفكرا وعاطفة وتحمل ما يختلج من نفسية المبدع من أحاسيس ومشاعر وأفكار لتولد الدلالة وتنتج الأثر النفسي في المتلقي
(( من أنت من نحن من خطواتنا شرب الطريق ثمالة فاحتارا
حتى السماء إذا الغيوم تعانقت من حبنا يأتي الندى مدرارا.))5
يلحظ المتلقي من السياق مقدار التماهي والذوبان في القدر المكتوب وفي الحب بلغ حد التيه والسكر(( من أنت بل من نحن من خطواتنا ))
فالخطوات هي القدر
لتأتي الاستعارات في (( شرب الطريق ثمالة فاحتارا، وإذا تعانقت . يأتي الندى)) ثمة دوافع للاكتمال والخصوبة والنماء بالذات التي تكمل فتتحول سكرى والأرض خصيبة والسماء ممطرة
وإذا كانت الصورة تميز الشاعر عن غيره فإن ثمة صور مدهشة وجديدة كمثل
(( خبأت وجهي في خمار قصيدتي
وطويت شعري في زمان ضياعي))ص١٨
الانزياح بالاستعارة المدهشة
فالقصيدة ليس خمارا والوجه لا يستتر بالقصيدة
مخاتلة جميلة لعفاف عميق خاصة والانزياح خرق يخرج عن المألوف فيحدث الإدهاش
ولأن الصورة الحديثة تحولت للتعبير عن قضايا وأفكار المبدع ورؤاه فقد عمدت بعض للرمزية خاصة والرمزية (( فن التعبير عن الأفكار والعواطف ليس بوصفها مباشرة ولابشرحها من خلال مقاربات صريحة ولكن بالتلميح إلى ما يمكن أن تكون عليه صورة الواقع المناسب لتلك الافكار والعواطف)
ومن خلال رمزية الفراشة في البيت التالي يلحظ المتلقي عمق الرمزية
(( كيف الحياة وحول كل فراشة
سور من الأحقاد والأطماع)) ص١٥
فالفراشة رمز للمرأة المقيدة بالعادات والتقاليد ملتحفة بالجمال مقيدة بالعراقيل التي تحول الانطلاق والفاعلية والتأثير وإذا كانت الفراشة رمز المرأة والجمال والإغراء
فإن ( سندباد) رمز وأسطورة للحل والترحال والغياب ومعادل رمزي للحنين والاستقرار
(( ارجع الخطو
نحو الحبيب
نحو ارتحال مضى
هل يعود؟
نحو أغنية الشوق
للسندباد) ص80
ومن خلال ما سبق يمكن أن نستخلص ما يلي:
– العنوان للديوان لم يكن موفقا فالشعر في أغلبه همس للخاطر بينما العنونة الداخلية موفقة لحد اختارت الكلمة الواحدة والمكثفة
– اختارت الشاعرة البحور الخفيفة العذبة كالمتقارب والبسيط والكامل
– جاءت اللغة سهلة عميقة بلا تكلف وعذبة
– اقتحمت الشاعرة نص التفعيلة ونجحت وإن كانت اللغة والصورة تحتاج لكثير من التكثيف بينما السطور الدفقات الشعورية مكتملة.
– كتب بعض النصوص بسخرية وسردية.
– انشغلت الشاعرة بالوطن وهموم الإنسان والقضايا الكبيرة وخصصت للذات وللمرأة جانبا من نصوص الديوان.