قراءة و حوار ونقد في كتاب:
دماء على رمال سيناء
-القصة الكاملة للتنظيمات الجهادية الجديدة في مصر-
المؤلفان: ماهر فرغلي- صلاح الدين حسن.
الناشر: مؤمنون بلا حدود و دال.
ط١. ورقية. ٢٠١٧.
بقلم. أحمد العربي. لصحيفة آفاق حرة
ماهر فرغلي و صلاح الدين حسن، صحفيين مصريين مهتمين بمتابعة شؤون الجماعات الاسلامية الجهادية في مصر.
الكتاب دماء على رمال سيناء… كتاب من الحجم الكبير يزيد على ٤٠٠ صفحة، ربعه وثائق أضافها المؤلفان لها علاقة مباشرة بمتابعة هذه الجماعات، اعترافات وتحقيقات وغيرها.
اولا: يبدأ المؤلفان بمتابعة نشاط الجماعات الاسلامية الجهادية في سيناء تحديدا، وفي مصر عموما ، ويمتد بحثهم ليطال امتداد أعمال هذه الجماعات إلى ليبيا وأفريقيا وسوريا ..الخ.
ثانيا: يعتمد المؤلفان على متابعة افراد من هذه الجماعات باللقاء المباشر، و عبر وسائل التواصل الاجتماعي، و النت و محاضر تحقيق الشرطة و الأجهزة الأمنية المصرية، ومن خلال متابعة الوثائق والمنشورات ومدونات النت التي تنشرها هذه الجماعات أو مواقعها الإلكترونية ، كتعبير عن مواقفها أو إعلانها عن أفعالها وأهدافها كجماعات جهادية متنوعة.
ثالثا: يبدأ المؤلفان من توقيت زمني عندما أعاد افراد وجماعات الجماعات الجهادية نشاطها وعملها، وهو تاريخ الثورة المصرية في ٢٥ يناير ٢٠١١، حيث التقت بقايا هذه الجماعات في ميدان التحرير وبدأت تفكر بإعادة نشاطها الجهادي، مستفيدة من الفجوة الأمنية التي أعقبت سقوط نظام مبارك وانتصار الثورة المصرية، وبدايات حكم الرئيس المصري الإخواني المنتخب محمد مرسي.
رابعا: يحاول المؤلفان الربط بين الجماعات الجهادية المصرية وبين جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فأغلب الجماعات تتوالى من جماعة الجهاد المصرية التي قامت باغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات في ثمانينات القرن الماضي، هذه الجماعة التي كان مصيرها الإعدام أو السجن أو الهرب، وكيف استفاد البعض من الخروج من السجن بعد انتصار الثورة، وبدأوا بالتكتل والعمل للعودة لنشاطهم الجهادي السابق.
خامسا: لم يتوسع المؤلفان في سرد الخلفية التاريخية والفكرية التي نشأ منها وفيها الفكر الجهادي والجماعات الجهادية، ولا ميزت بين خطين فكريين ومن ثم حركيين في جماعات الإسلام السياسي، منذ سيد قطب واختلافه مع جماعة الإخوان المسلمين ودعوته الى الطليعة الإسلامية المواجهة للدول الجاهلية التي لا تطبق شرع الله، وضرورة الخروج عليها بالعنف المسلح وبناء الدولة الاسلامية، وكتب في فترة سجنه في الستينات، “معالم في الطريق” الذي اعتبر الكتاب التنظيمي الأهم للجماعات الجهادية، ولا ننسى التأثر الواضح بفكر أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي التكفيري الداعي لبناء دولة الإسلام، القادم من باكستان والهند، والمختلف مع خط جماعة الإخوان المسلمين متمثلا في المرشد العام حسن الهضيبي في كتابه “دعاة لا قضاة”، الذي أكد على الدور الدعوي للجماعة وعلى التدرج في العمل الى الوصول للسلطة عبر الوسائل الديمقراطية، وهذا ما توافق عليه أغلب فروع جماعة الإخوان المسلمين في الوطن العربي، خاصة مصر وسوريا وتونس والأردن والجزائر .. الخ، وكيف افترقنا عن الجماعات الجهادية بدأ من “الجهاز الخاص” الذي انفصل عن الإخوان وعمل مستقلا عنه، ومن ثم تشكيل تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة.. الخ، التي اختلفت بالفروع وتوافقت على عملها العنفي وضرورة بناء الدولة الاسلامية بالقوة، والتي واجهتها الأنظمة العربية قاطبة وكان مصيرها القتل والسجن والهروب.
سادسا: لا بد من ذكر دور دعوة الجهاد في أفغانستان، التي رعتها أمريكا وبعض الأنظمة العربية ودعاتها الدينيين، الذي أعاد احياء جماعات الجهاد الإسلامي الموجه ضد الاتحاد السوفيتي” الملحد” الذي احتل أفغانستان ، والتي كانت المناخ الفكري والعسكري لتوالد العمل الجهادي المقاتل على مستوى العالم مجددا، كان من نتائجه المباشرة التزاوج بين الفكر الجهادي القطبي، والفكر السلفي، الذي أنتج السلفية الجهادية، بدرجات اختلاف فرعية متفاوتة، تكفير الحكام وتكفير المجتمع، وضرورة القتال لبناء الدولة الإسلامية، واولوية الجهاد على كل ما عداه، وقتال الغرب بصفته ممثلا للكفر العالمي، وقتال الانظمة بصفتها علمانية ولا تطبق الإسلام في الحكم، كل هذه الرؤى وجدت فرصة الوجود والنمو في أفغانستان، وتحولت بعد ذلك لتشكل تنظيم القاعدة الإسلامية، الذي قام بأعمال عسكرية نوعية، وضرب المصالح الأمريكية، وكان ذروتها ضرب أمريكا نفسها في ٢٠٠١، وتحول العالم لمحاربة الجهاد الإسلامي الذي اعتبر إرهابيا يجب استئصاله.
سابعا: نريد أن نؤكد على أن ظروف العمل السياسي العربي عموما، ليست ديمقراطية بالمعنى السياسي الحديث وكما يمارس في دول الغرب عموما، الدول العربية دولا جمهورية أو ملكية، محكومة بأنظمة استبدادية عبر عقود، وبعضها وراثي، وان العمل السياسي الحر محظور بدرجات مختلفة، ويضاف إليه التخلف والاستغلال والفساد والتبعية للغرب والفقر والتفاوض الاقتصادي والبطالة، كل ذلك جعل الشباب العربي -ومنذ عقود- يبحث عن الخلاص عبر تبني العقائد الشمولية والعمل للوصول للحكم، وهذا ينطبق على القوميين العرب و الماركسيين والاسلاميين، ولم تسلم هذه التيارات من الملاحقة الأمنية من السلطات العربية عبر إدخالها السجون أو قتل منسوبيها أو تشردها في المنافي ، عبر عقود، وبالتالي ان التحرك لمواجهة الأنظمة الاستبدادية لم يكن حكرا على التيار الإسلامي بنوعيه العنفي والسلمي.
ثامنا: لذلك كان الربيع العربي ردة ثورية من الشعوب بكامل أطيافها الاجتماعية وعلى رأسها الشباب، لاستعادة الحقوق بالحرية والعدل الاجتماعي والكرامة الانسانية والدولة الديمقراطية والحياة الافضل، وكانت أجواء الثورات العربية حاضنة حقيقية لكل التيارات السياسية الباحثة عن حلول لمشاكل السلطات التي تأبدت قاهرة الشعوب لعقود.
تاسعا: لا بد من التركيز على طبيعة الفكر الديني عموما والإسلامي خصوصا، بكونه فكرا مصدره الله تعالى، يعتقد بعض منتسبيه بإطلاق اجتهاداتهم وآرائهم السياسية وأنها غير قابلة للمراجعة وكأنها كتاب الله المقدس، وجعل هذه الأفكار بمثابة قوانين حاكمة للفكر والسلوك، هذه الأفكار التي تركزت بمقالات محددة حول حتمية بناء الدولة الإسلامية، وتكفير الدولة والمجتمع، تكفير المختلف وأبناء الأديان الأخرى، استباحة الأموال والدماء، اعتماد العنف المسلح الوسيلة اللازمة للوصول للسلطة ومحاربة وقتل كل من يقف بوجه تحقيق ذلك، لذلك اعتبرت الأنظمة الحاكمة ان هذه الجماعات خطرة على وجودها، واعتمدت رؤية أمنية أهم أركانها: استئصال هذه الجماعات وبكل الطرق، وهذا أدى لعمليات ملاحقة أمنية في كل الدول امتد لعقود، قتل البعض وهرب البعض وسجن البعض، وتحول السجن إلى حاضنة لصناعة منتمين للفكر الجهادي بشكل عضوي، فعند كل منعطف داخل أي بلد أو على المستوى العربي أو الإسلامي، كالذهاب لأفغانستان ثم الحرب على العراق ومن ثم احتلاله، القضية الفلسطينية والمظلومية التي يعيشها شعبها عبر عقود، إضافة للقمع المجتمعي والسياسي في الدول العربية نفسها، صنع ظروف احتجاج شبابي يعتقل ويعاد تأهيله بالسجن ليكوّن كوادرا مناسبة للجماعات الإسلامية ومستعدة للموت “استشهادا” للانتقام ولبناء دولة الإسلام. نحن أمام حلقة مغلقة من الظلم والمظلومية وسوء الحكم السياسي، والفكر المغلق على نفسه، والإنسان المأزوم، كل ذلك يحصل في الجماعات الجهادية المعاصرة يؤدي لوجودها ونموها دوما.
عاشرا: في الكتاب تركيز على بقايا المجموعات الجهادية التي أعادت تجمعها وتشكلها بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ في مصر، والتي استفادت من الثغرة الامنية، والتي أعادت تأهيل نفسها لتصنع برنامجها السياسي وبناء المستقبل المطلوب؛ الدولة الإسلامية، هذه الجماعات متعددة الرؤى السياسية، واختلاف درجة التكفير، وحتمية استعمال العنف ، واولوية الصراع مع الأنظمة، أم ” اسرائيل”، أم كليهما معا، وكيف أصّلت نفسها فكريا ، وعملت لخلق تكتلاتها الحركية ، وكيف بحثت عن الأماكن التي ترى أن الظروف مناسبة لعملها، من حيث ضعف الحضور الأمني للسلطات، و وجود حاضنة شعبية مأزومة ومظلومة تقبل بهم وتعمل معهم وفق أجندتهم، هذا ما حصل بعد إسقاط الرئيس مرسي، واعتبار كل التيار الإسلامي وخاصة الإخوان المسلمين ارهابيين، وهذا دفع الكثير من شباب الإخوان إلى الالتحاق بالجماعات الجهادية التكفيرية في سيناء واليمن وليبيا وسوريا وغيرها من بلاد الأزمات.
حادي عشر: لقد اعتمدت المجموعات الجهادية المسلحة بعد الربيع العربي الذي تم اجهاضه، سواء من الأنظمة الاستبدادية نفسها، بعد تغير شكلي في الحكم الاستبدادي كما في مصر، أو التي تم اسقاطها وأصبحت دولا فاشلة كما سوريا وليبيا واليمن، دولا يخاض بها صراع دولي وإقليمية بالواسطة وعلى حساب هذه الشعوب ودمائها. لذلك اعتمدت المجموعات الجهادية المسلحة على إعادة تشكيل نفسها، واعتمدت التأصيل الفكري، والتكتل الحركي بمجموعات جديدة وتسميات جديدة متوالدة دوما. التأصيل الفكري اعتمد على كتابات كثيرة متاحة بالنت، كان أبرزها كتاب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي، الذي قسم العمل مراحل: أولها الحضور من ثم التمكين والمواجهة مع الانظمة، والصراع معها، وخلق مناطق نفوذ لهذه الجماعات، ومن ثم إدارتها للوصول إلى الدولة الإسلامية في أي بقعة يتم السيطرة عليها، ثم الانتقال في المواجهة إلى مناطق وبلدان أخرى. وكذلك كتاب المقاومة الإسلامية لأبو مصعب السوري وغيرهم كثير، وكلها تجيب عن كل الأسئلة المتعلقة بشرعية دعوتها العنفية وتأصيله دينيا، وكيفية النشاط والتغلغل واكتساب العضو، وكيفية زرع الانتماء به، ودفعه ليكون قنبلة حيّة موقوتة، مستعد للقيام بالدور الجهادي المطلوب منه.
ثاني عشر: لقد ظهر عدد كبير من الجماعات والتنظيمات الإسلامية مثل جند الله، وأنصار بيت المقدس و جند الملاحم، وأجناد مصر وغيرهم كثير، كلها اعتمدت على ضرورة أن تعمل لاسقاط الحكم في مصر والعمل الجهادي في سيناء في مواجهة الشرطة والجيش المصري، وفي مواجهة المصالح الاسرائيلية، واعتمدت على العمليات التفجيرية، و الهجمات المسلحة و الاغتيال، التي أدت لإصابة ومقتل العديد من رجال الأمن والشرطة والجيش، وكانت خطتها ان تصل لمرحلة تسيطر به على سيناء وتكون نواة دولتها الاسلامية، وهذا دفع الأمن المصري ليقوم بأعمال عسكرية وحربية ضد هذه الجماعات وضد حاضنتها، مما جعل من سيناء أرض محروقة، مع العلم ان سيناء أصلا تقع على كنز من الخيرات، ولكنها متروكة للإهمال والمظلومية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بحيث كانت تربة صالحة لاستقبال الجهاديين واحتضانهم.
ثالث عشر: توسع عمل المجموعات الجهادية ما بين عام ٢٠١١ واوائل عام ٢٠١٧، كثيرا ليشمل كلا من مصر كلها وخاصة سيناء وليبيا واليمن وسوريا، حيث كان ينتقل الجهاديين بين الساحات حسب الحاجة والقيام بأدوارهم وتنفيذ أجندتهم في هذه البلدان. وتحدث الكتاب بالتفصيل عن تحركاتهم تلك، وعن تأثيرهم والمتغيرات التي حصلت، فهم بداية ينتمون فكريا وسلوكيا إلى مدرسة القاعدة ومؤسسها أسامة بن لادن، ومن ثم الاختلاف بين القاعدة وقائدها الجديد أيمن الظواهري، والوليد الجديد، الدولة الاسلامية في العراق، التي اختلفت مع ربيبتها جبهة النصرة في الشام، والذين تحاكما إلى الظواهري الذي أفتى بعدم توحدهم تحت مسمى الدولة الاسلامية في العراق والشام، واستمرارهم كمكونين منفصلين، ورفض تنظيم الدولة ذلك، الذي أعلن رفض بيعته للقاعدة، وتأسيس دولته الإسلامية داعش، التي حاربت القاعدة وكفرتها، وبدأت معها صراعا مسلحا حيث تواجدا معا، في مصر سيناء وفي ليبيا والشام بين داعش والنصرة. لقد توسع الكتاب في ذكر الأشخاص والتطورات الفكرية، والامتداد الحركي، وانغلاقهم العقلي وتحولهم إلى منظومة سرية مغلقة مبرمجة عقليا ونفسيا ، المنفصلة اجتماعيا عن محيطها، أنهم قنابل جاهزة للانفجار في أي وقت.
رابع عشر: إن الكتاب بتوسعة حول الجماعات الإسلامية المسلحة والتكفيرية ودورها القتالي، قد غيبت “بشكل ما” مجموعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أنتجتها، وخاصة دور الأنظمة القمعية وأجهزتها الأمنية ووسائل التعذيب والتحقيق، وكذلك السجون وفترات الاعتقال المديد، الذي حول السجون إلى “جامعات” تخرج أجيالا متتابعة من الجهاديين. كما تم تغييب الحديث عن التطورات الفكرية الكبيرة التي طالت الفكر الإسلامي عبر العقود الماضية، والذي لو كان ضمن مناخ ديمقراطي، ودول تضمن حقوق شعوبها ومصالحهم وفرص العمل والحياة، لكانت التغت الأسباب الموضوعية لوجود ونمو الجماعات الاسلامية المسلحة، ولما استطاعت التوالد دوما بكثير من الشباب اليائس الضائع والفاقد الأمل بالحياة والمستقبل .
اخيرا: إن عدم النظر إلى ظاهرة الجماعات الاسلامية المسلحة وتطوراتها، ما قبل القاعدة وما بعد داعش، بصفتها جزءا من واقع المجتمعات العربية والإسلامية، وكوننا جزء من هذا العالم، وأننا كشعوب و دول تحت التبعية للغرب ومصالحه، مجرد أدوات تتصرف وفق مصلحة الغرب و”اسرائيل”، ودول تحكمها عصب استبدادية تستثمر البلاد والعباد من اجل مصالحها ، وارتباطاتها الدولية والاقليمية، تاركة شعوبها ضحية فقر وقهر واستبداد وتخلف، في هذه الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فطالما أن هناك ظلم وجهل وفقر وبطالة واستبداد وقمع وتفاوت اقتصادي فلكي، وإصرار على الحلول الأمنية في العلاقة مع الحراك السياسي المجتمعي، وعدم الانتقال إلى الطور الديمقراطي في بلادنا العربية، بصفته الطور الافضل لبناء الدول وصناعة الحياة الأفضل للأمم والشعوب، وعدم انخراطها كدول ديمقراطية، ومجتمعات في معركة التنوير العلمي والديني، وتعميم مفهوم المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، واحترام الاعتقادات جميعها ، والعمل للنهوض الاقتصادي والاجتماعي وبناء الحياة الأفضل لكل الناس. فاننا امام حلقة مغلقة تنتج التطرف والعنف ، وتعيد إنتاجه، وتؤدي لمزيد من التأزيم المجتمعي، لنصل لدرجة الخراب المجتمعي العام، والذي نرى بوادره بكثير من بلادنا العربية الآن.
أن أي علاج لأي مرض أصبح متفشيا، يستحيل أن لم يتم القضاء على الظروف التي تؤدي له وتغذيه.
…٢٤/٦/٢٠١٨…